أنطون تشيخوف: الطب زوجتي الشرعية.. والأدب عشقي

تتقاطع بعض عوالم تشيخوف الإبداعية مع ما نعيشه اليوم من ثقل الحياة اليومية وجسامتها، التي تقود إلى الإحباط الروحي، والشعور بالعجز الإنساني، بسبب قتامة الواقع، وضبابية المستقبل، وقسوة الظروف، المحيطة بنا، الموحية بعبثية المصير.

كتب أنطون تشيخوف معظم أعماله، في وقت كانت تجتاح روسيا فيه، حالة من المرارة، نجمت عن إخفاق إصلاحات القيصر ألكسندر الثاني وخلفه، في إحداث تغيير يذكر في حياة الفئات الاجتماعية الواسعة من الروس، إضافة إلى طفولة مأسوية عاشها الكاتب، إذ قال: (لم أنعم بأي طفولة في طفولتي)، وهو طفل الأدب الإنساني الرائع وطبيبه، الذي اعتصر دم العبودية من قلبه، ليصحو ذات صباح، وفي عروقه تجري دماء إنسان حقيقي.

امتزج في إبداع الكاتب العام والخاص، الطفولة البائسة والإخفاقات الاجتماعية، مع تشكل الحركة الثورية وظهورها، هذا التفاعل أعطى أهم خصائص تشيخوف الإبداعية: قتامة من الكآبة، وجو من الإحباط الروحي، وشعور بالعجز أمام الظروف المجهولة واللامرئية، ممزوج بتفاؤل شفيف.

تشيخوف من الكتاب الذين اهتموا بكل ما هو بسيط، وجوهري، قدمه بصدق، وهو أحد أسباب تلقيه من قبل القراء خارج روسيا، زمان ومكان إنتاج النص الأدبي، فهو عابر للقارات، ورأس مال ثقافي إبداعي، فإذا أخذنا بعين الاعتبار التناظر اللصيق بين الظروف المنتجة للنص، وشروط تلقيه، والبنى المشتركة، للمتخيل الإنساني، نضع أيدينا على أحد أهم أسرار الاهتمام والتلقي لإنتاج الكاتب الروسي أنطون تشيخوف خارج الزمان والمكان، مما يعطيه قيمة دلالية مضافة.

أعمال تشيخوف كوميديا إنسانية روسية، نجد فيها كل الفئات الاجتماعية، مجسدة بصدق فني مدهش، واعتدال في الموقف، ونزاهة في الوصف، فكل كلمة من كلماته لها أهميتها المستترة، فالإيجاز عنده قرين الموهبة، هو بوشكين الأدب النثري الروسي، كما قال عنه تولستوي.

كان الكاتب في إبداعه يفصل بين لغته الخاصة ولغة شخصياته (يحافظ على ملفوظ الشخصية) القصصية، فكل شخصية تنطق وفق مكوناتها الثقافية والمعرفية، ووضعها الاجتماعي، فكل الفئات الاجتماعية الروسية، تجد نفسها في إبداع الكاتب دون إقحام لوجهة نظره في الشخصية، تاركاً لها حرية الحركة، وحق التعبير، والخيارات، وبذلك يسمح للقارئ باستخلاص الدلالة، وهذا ما تحدث عنه باختين لاحقاً حول (الحوارية في اللغة وفي النص).

رغم النجاح الكبير الذي لقيه الكاتب، المغمس بالمرارة، كان يشعر بأنه لم يكتب سطراً واحداً له قيمة أدبية حقيقية، وكان متعطشاً للاختباء في مكان ما، لمدة خمس سنوات، أو نحو ذلك، لينجز عملاً جاداً، يستحق التقدير، على أن يدرس ويتعلم كل شيء من بدايته.

إنه مدرسة في التواضع الإنساني والإبداعي، هذا الإنسان الرقيق، الدمث، يستطيع أن يقف في وجه أي قوة معادية، بكل صلابة وقوة لا تلين، كما وصفه غوركي.

تشيخوف أول من تكلم في الأدب الروسي، بصوت خفيض هامس، وبأسلوب ينم عن الثقة بمن يخاطبه، فقد تجنب الغنائية الشديدة، واللغة الساحرة، وقدم الناس كما هم عليه في الحياة، لا كما يريدهم أن يكونوا.

قدم الحقيقة الصارخة، بهيئة بهية فنية، جوهرية وصادقة، متحدثاً عنها في أكثر الأجواء حميمية وعمقاً، وفي أشد الزوايا غموضاً في القلب البشري، هذه الحقيقة التي تثير مشاعرنا ببساطتها وعفويتها، محركة فينا، تراكمات الماضي، وتفاعلاته التي نسيناها، وفي الوقت نفسه، تستدعي مستقبلنا الذي نحدس به، فوراء هدوء تشيخوف مزيد من القرف والحب، والتمرد والاستسلام، فهو مدفون في مدينة صماء، وبحكم بساطته الرائعة، كان مغرماً بكل ما هو بسيط وجوهري وصادق.

جمع بين الرؤية الحزينة للحياة الروسية، وتلك السخرية المرحة اللاذعة، ولعل في موته المبكر عن أربعة وأربعين عاماً، عاشها بكثافة ومحبة وعمق، أكبر مؤشر على السخرية، حتى قبيل وفاته كان يقص على زوجته القصص المضحكة: (إنني أموت، كرر تشيخوف، ثم تناول كأس الشمبانيا، التفت إلى زوجته، نجمة مسرح موسكو الفني، ابتسم لها، ابتسامة وصفتها فيما بعد بالمدهشة، ثم نطق بكلماته الأخيرة: منذ زمن بعيد لم أشرب الشمبانيا). شرب الكأس كلها، ثم استلقى بهدوء وببطء شديدين على جنبه الأيسر.. وأغمض عينيه.. بهذا المشهد المهيب أسدل الستار على حياة واحد من ثلاثة أدخلوا القصة القصيرة مملكة الأدب: موباسان، إدغار ألان بو، وتشيخوف.

أسدل الستار على حياة المسرحي الثوري الذي حطم تقاليد المسرح، وابتكر أساليب جديدة فيه. ما أبهى أن يتذكر المرء إنساناً وكاتباً من هذا النوع، كان الطب زوجته الشرعية، والأدب عشقه، وحين يمل من إحداهما، يتوجه إلى الأخرى، ليقضي ليلته معها.

نعم، لم يستطع تشيخوف تغيير العالم، واقتلاع الكآبة منه، وقلما توصل إلى إصلاح الناس، لكنه عالج النفس البشرية، فأقال بعض عثارها.

وبكل تأكيد سيكون العالم أكثر وحشة، والإنسان سيخسر نصيراً متحمساً له لو افتقد منجز تشيخوف القصصي، والمسرحي، أما حياته الشخصية فقد عاشها بكثافة مركزة، وصدق وعمق لا يقل جمالاً وقيمة عن نصوصه الإبداعية.

(*) ولد تشيخوف في 29 كانون الثاني 1860.

العدد 1105 - 01/5/2024