العربية وتحديات العصر

بدعوة من ملتقى جرمانا الثقافي، ألقى الدكتور حسين جمعة، رئيس اتحاد الكتاب العرب، بمشاركة كل من الدكتور غسان غنيم، أمين سر فرع الاتحاد في ريف دمشق، وأستاذ الأدب العربي الحديث في قسم اللغة العربية بجامعتها، والباحث نبيل نوفل، عضو اتحاد الكتاب العرب، جمعية الدراسات، مداخلات تتعلق بموضوع (اللغة والهوية)، حسب الدعوة الموجهة إليهم، لكن الموضوع اتسع ليشمل قضايا تتعلق باللغة العربية وباللغات عموماً، نشأة وبنية، ووظيفة، وتطوراً، وتم التركيز على التحديات التي تواجه اللغة العربية من داخلها، كمنظومة بنيوية تمتلك تاريخاً عريقاً ومخزوناً لفظياً غزيراً، ومن خارجها كتحديات العولمة والمعاصرة. وجرى نقاش من السادة الحضور، حول الموضوعات المطروحة، وأدار اللقاء الشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي، رئيس فرع ريف دمشق، لاتحاد الكتاب العرب.

***

إذا نظرنا إلى اللغة، والأصح أن نقول (اللسان) كظاهرة تاريخية، عضوية، إنسانية حية، تخضع لمجمل القوانين، التي تنتظم الظاهرات الاجتماعية، بما فيها اللغة، كنتاج اجتماعي تاريخي، وسلمنا بالتعريف الجامع المانع للغة (اللسان) بأنها: منظومة صوتية، إشارية، تواضعية، تواصلية، دلالية، لتجنبنا مشاكل كثيرة، أثيرت حول اللغة العربية، لا تتعلق بها كبنية معرفية، وإنما تخرج عنها إلى موضوعات أخرى تتعالق بها وتمسها من الخارج. لعل أبرز المشاكل التي واجهت وتواجه اللغة العربية، تكمن في التشاكل العلائقي المفاهيمي، بين ، اللغة، الدين ــ الأمة، والقومية، والهوية، وفك التشابك بين هذه المفاهيم يعطي مجالاً أرحب لمناقشة اللغة لذاتها، كبنية بعيداً إلى حد ما عن الحمولات المضافة إليها، من أبنية معرفية، فكرية، ودينية، وقومية، وسياسية، وأيديولوجية. من الهام أن نميز بين اللغة والمقدس، فاللغة حامل يمكن أن تنقل المقدس وغيره، كما يمكن أن تعبأ بالجميل والقبيح، فإذا كانت اللغة العربية حاملة للمقدس، إيمانياً، فهذا لا يكسبها القداسة، ولولا قدرة اللغة العربية وإمكاناتها الواسعة لما استطاعت أن تحمل هذا المقدس، فهي أسبق منه كنص من حيث التشكل والوجود، والخطورة في المسألة، تكمن في أن المقدس ثابت لا يتغير، واللغة بوصفها نتاجاً تاريخياً بشرياً، متغيرة ومتطورة، ومتجددة، وتقديسها يقلل من إمكانيات تجديدها وتطويرها.

ثمة من يقول بأن المشكلة ليست في اللغة العربية، إنما في الناطقين بها، وفي وضعهم التاريخي الراهن، فقد كانوا في الماضي، في مركز قيادة العملية الحضارية (التسيّد)، وهم اليوم في موقع التبعية المعرفية، والإنتاجية، هذا الفارق النوعي، بين ماض عريق منتج، وحاضر يقوم على التبعية، بكل ما لها من انعكاسات وما فيها من عقد، ترك أثره في واقع اللغة العربية ومكانتها.

يعترف المختصون بقوانين عامة، ناظمة لكل لغات العالم، (اللغة بوصفها لساناً) فاللسان واحد لدى كل الشعوب، وهو من قبيل المجاز تعبير عن الجهاز الصوتي المتطور، الذي يمتلكه الإنسان وحده، وما يرتبط به من جملة عصبية شديدة التعقيد، ينظم عملها الدماغ المتصل بالعالم الخارجي عن طريق الحواس، قوانين اللسان واحدة، تنطبق على اللسان العربي (العربية) وعلى غيرها من اللغات،(القواعد العامة للغات)، ولكن هناك مزايا لهذه اللغة أو تلك، فما هو مزية في لغة ما، لا يعد نقصاً في لغة أخرى، فمن مزايا اللغة العربية، الصوتية مثلاً، أنها تتوزع على المدرج الصوتي، بتناسب وانتظام، يدعو إلى الدهشة، وهي تستخدمه بكل طاقاته، بتنويع وتوزيع إيقاعي منسجم، من الحنجرة إلى الشفتين.

تعظيم لغة ما، ورفعها فوق اللغات جميعاً، لا يقل خطورة عن التقليل من قدراتها وإمكانياتها، على مجاراة العصر، وسعة صدرها لمنجزاته، وهذا يتوقف على مكانة الناطقين بها ومؤهلاتهم، وعلى موقعهم وموقفهم من تطور المعارف والعلوم الإنسانية، لا على اللغة وحدها، فهي ليست معزولة عن عقول من ينتجها، لأن العلاقة شديدة الصلة بين الفكر واللغة، فالفكر ينتج اللغة في الوقت الذي تنتج فيه اللغة الفكر.

أما عن المخاطر التي تجابه اللغة العربية، فهي كثيرة ومتنوعة، واللغة العربية في مأمن من هذه المخاطر، لسببين: بنيتها القابلة للتطور، وغناها وعراقتها، وقدرتها التاريخية على مواجهة التحديات، والممكنات التي يتمتع بها أبناؤها، هذه القدرات والإمكانات، لو أحسن استغلالها وتوظيفها في خدمة اللغة العربية، لأحيطت بسياج من القدرة والمقاومة، يؤهلها للصمود في وجه كل التحديات التي تواجهها من داخلها ومن خارجها، ومن المستحيل هنا الفصل بين حالة اللغة وأوضاع الناطقين بها.

الارتفاع بالمنسوب الثقافي والمعرفي للناطقين باللغة العربية، يقرب الهوة بين اللغة المكتوبة والمحكية، ويساوق بين مستويات المتحدثين بها، والمعرفة والثقافة والعلم، تتقدم الفصحى، وتتراجع المحكيات، وهذا يتطلب تضافر جهود المؤسسات المعنية على مستوى الوطن العربي، بعيداً عن الخطابية والإنشائية، والعصبية، في تناول موضوع اللغة، والتعامل معها كعلم لها قوانينها الخاصة بها، في سياق القانون العام الناظم لكل اللغات.

العدد 1105 - 01/5/2024