القومية في الموسيقا الخمسة العظام نموذجاً

الخمسة العظام: هي واحدة من المجموعات الحرة التي نشأت في فترة تصاعد الديمقراطية (ستينيات القرن التاسع عشر) في مختلف مجالات الثقافة الروسية داعمة بعضها البعض في النضال من أجل المثل العليا الاجتماعية والجمالية التقدمية معارضين للروتين الأكاديمي الجامد والانفصال عن الحياة وإهمال الحداثة متجهين بالموسيقا الروسية إلى الأمام، معتبرين أنفسهم  خلفاء الأساتذة والمؤلفين القدماء للمدرسة الروسية (غلينكا)و(دارغوميجسكي)، فهي رابطة المؤلفين المبدعين الروس، أو المدرسة الروسية الحديثة، أو الخمسة العظام، وتسمى في الروسية بالحفنة او القلة العظماء، واعتمدت بالفرنسية تسمية الخمسة العظماء، كما تسمى عموما بحلقة بالاكرييف.

تتألف مجموعة الخمسة من:

ميليي بالاكرييف (1837 -1910)، موديست موسورسكي (1839-1881) ألكسندر بورودين (1833- 1887)، نيكولاي ريميسكي كورساكوف (1844-1908)،  تسيزر كوي (1835-1918).

جمعت (الحفنة العظماء) بين نخبة من جيل الشباب الموهوبين في تلك الفترة -باستثناء تشايكوفسكي لأنه لم يكن عضواً في أي مجموعة، وكان (بالاكرييف) المشرف والموجه لهذه المجموعة، من هنا أتت تسمية (حلقة أو دائرة بالاكرييف)، كما كان الملهم والمستشار غير الموسيقي للمجموعة، الناقد والكاتب والمؤرشف فلاديمير ستاسوف (1824-1906)، فقد أخذت اسمها (حفنة العظماء) من مقال كتبه (حفلة بالاكرييف السلافية)، التي أقيمت على شرف مدعوين سلافيين تحت إشراف وإدارة بالاكرييف في أحد المعارض عام 1867 وقد كتب في نهاية المقال معرباً عن رغبته أن يتذكر الضيوف السلاف دائماً كم من الموهبة والمهارة والمشاعر عند الحفنة (القلة)، ولكنهم الحفنة العظيمة من الموسيقيين الروس.

من أهم مصادر إبداع الخمسة: الأغنية الشعبية، فقد جذبت انتباههم أغاني الفلاحين الشعبية القديمة، ورأوا فيها أسس التغيير الأساسية للتفكير الموسيقي القومي، فالقومية والوطنية هي المبادئ الأساسية للخمسة، لذلك ارتبطت إبداعاتهم بشكل أساسي بصور من حياة الناس والماضي التاريخي الروسي، وللملاحم والأساطير والطقوس القديمة مكانة مهمة.

موسورسكي كان الأكثر تطرفاً في معتقداته الفنية بتجسيد قوي وكبير في تصوير الناس، فالكثير من أعماله تميزت بصراحة نقد الاتجاهات الاجتماعية. تظهر ميزة الخمسة في معالجة الأغاني الشعبية كمثال: في عمل (40 أغنية شعبية روسية) التي دونها بالاكرييف أثناء رحلته على طول نهر الفولغا،كما أن الكثير من الاهتمام دفع ريميسكي كورساكوف لجمع الأغاني الشعبية ومعالجتها، نتيجة لذلك انعكست الأغنية الشعبية على الكثير من أعمال الخمسة السمفونية والأوبرالية، إضافة إلى الاهتمام بفلكلور الدول الأخرى خصوصاً دول الشرق، فبعد (غلينكا) طورت واستخدمت مجموعة الخمسة سلالم وايقاعات شرقية بشكل واسع مما ساهم بظهور المدارس القومية عند هذه الشعوب، كما انعكست أفكار التحرر الشعبية في القرن 19 على الكثير من أعمالهم، منها (1000 سنة) لبالاكرييف و(أغنية الغابات المظلمة) لبورودين.

أسست مجموعة الخمسة مدرسة موسيقية مجانية 1862 وكانت مركزاً لأنشطتهم الموسيقية والتعليمية، فقد عرضت فيها الكثير من أعمالهم أمام المؤلفين الروس والأجانب.

إن النشاط الابداعي لجماعة الخمسة هو المرحلة التاريخية الأكثر أهمية في تطور الموسيقا الروسية بالاعتماد على تقاليد غلينكا ودارغومجسكي مع إثرائها، ويظهر هذا الإثراء في أعمالهم الأوبرالية والسمفونية وأعمال الحجرة الغنائية.

الصفات المشتركة بين مؤلفاتهم الأوبرالية تتمثل في الخصوصية الوطنية، واقعية الصور، ومشاهد درامية تمثل حشوداً شعبية، وكأمثلة لبعض الأعمال الأوبرالية (بوريس غودونوف) لموسورغسكي، و(الأمير أيغور) لبورودين، و(سادكو) لكورساكوف. كما ظهر في أعمالهم السمفونية إبداع أصيل واهتمام بالتفاصيل، فقد كان ريميسكي كورساكوف سيد التوزيع الأوركسترالي وسادت أعماله السمفونية بدايات جذابة، أما في نتاجهم لموسيقا الحجرة الغنائية فتظهر روحانية شعرية ونفسية، مع دراما وملحمة، وقد احتلت موسيقا الحجرة الآلية مكانة أقل أهمية، ففي هذا المجال كانت ل(لوحات المعرض) لموسورسكي، أهمية مميزة ومكانة فريدة في نتاج وأدبيات آلة البيانو.

عارضت جماعة الخمسة الاتجاهات الأكاديمية المتمثلة في (جمعية الموسيقيين الروس) و(كونسرفتوار بطرسبورغ) برئاسة (روبنشتاين)، كان هذا العداء مشابهاً لنضال مدرسة (فايمار) ومدرسة (لايبزغ) الألمانية في منتصف القرن 19 ولكن معاداتهم للتقليدية الأكاديمية المفرطة أظهرت أن بهم سوء فهم أحياناً، كالاستهانة بنظام التعليم الموسيقي المهني الأكاديمي، ولكن مع مرور الوقت خفت حدة التناقضات والخلافات الحادة بين هذين الفريقين والتقوا في العديد من النقاط المشتركة. قبل منتصف السبعينيات توقفت مجموعة الخمسة عن كونها مجموعة متماسكة، ويعزى ذلك إلى أزمة نفسية حادة عانى منها بالاكرييف وتوقفه عن المشاركة الفعلية في الحياة الموسيقية، لكن السبب الرئيسي لإنهاء جماعة الخمسة يرد للخلافات الداخلية الإبداعية، فبالاكرييف وموسورغسكي لم يوافقوا على النشاط التدريسي لريميسكي كورساكوف في كونسرفتوار بطرسبورغ، ورأوا أنه استسلام للمواقف المبدئية، وقد ظهرت أكثر التباينات والخلافات حدة في أوبرا (بوريس غودونوف) على مسرح المارينسكي عام 1874.

في الحقيقة هذا ما يحدث في الأنشطة التطويرية في جميع فروع النشاط البشري -كما يقول النقاد- إذ تبدأ السمات بالاتجاه والانطواء تحت إطار المدرسية، بالرجحان إلى ماورثه الفرد عن غيره.

الحفنة العظماء كاتجاه استمرت في مواصلة التطوير وقد أثرت مبادئها الفنية والإبداعية على الكثير من المؤلفين الروس الشباب، وظهرت مجموعات مشابهة للخمسة العظام ولكنها افتقرت لروحها حماستها وأساليبها الفنية المبتكرة.

العدد 1105 - 01/5/2024