الرواية العربية بين التغريب والتاصيل

تتباين مواقف دارسي نشأة وتطور الرواية في المنطقة العربية، فيذهب بعضهم إلى إنكار وجودها في الأدب العربي القديم، بينما يلجأ آخرون في محاولة يائسة إلى تنسيب هذا الجنس الأدبي الوافد من الغرب إلى منظومة الثقافة العربية بإرجاعهم الرواية إلى ما هو موروث من السرديات العربية القديمة، كسيرة عنترة والزير سالم وشجرة الدر وتغريبة بني هلال، وأخيراً الأثر الأهم الذي عرفناه من الغرب، وكان مرذولاً في السرديات العربية وهو (ألف ليلة وليلة)، التي تأثّر بها أهم كتاب وشعراء الغرب (دانتي، هيغو، بوشكين، موباسان، كويلو).

حقيقة الأمر تكمن في عدم التفريق العلمي والخلط المفاهيمي بين مصطلحين: السرديات العربية المحكية والمكتوبة، والرواية كفن لم يظهر في الثقافة العربية لانعدام المقدمات الضرورية والشرطية لولادته من: مدنية، صناعة، طبقة وسطى، مطبعة،  حوارية معارف، حريات ديمقراطية، وقراء على درجة من الثقافة تمكنهم من تلقي الرواية والتفاعل معها.

هذه الظروف والمقدمات توفرت في الغرب مع بداية عصر النهضة الذي جعل من الإنسان محوراً للكون، بدءاً من سرفانتس، ثم تطوّرت ونمت الرواية بعده بفضل الاكتشافات العلمية والفتوحات الجغرافية، وازدهار الصناعة، وتطور التجارة، وتوطد النظام الرأسمالي الذي كانت الرواية تجسيداً لرسوخه وتسيّده إلى الحد الذي قال عنها (الرواية) هيغل ومن بعده لوكاتش: الرواية ملحمة البرجوازية.

مع ظهور المدن وتشكل الطبقة الوسطى في المنطقة العربية، والحراك الثقافي والعلاقة مع الغرب بكل ما فيها من انجازات علمية وثقافية ومعرفية، وفي عملية تفاعل وتخصيب ثقافي بين ما تملكه الثقافة العربية من فنون سردية نثرية وبين المنجز الغربي في عملية جدلية بين الوافد الذي يتحدد ويتشكل وفق أنظمة وقوانين الداخل بمكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية، بدأت تباشير الرواية العربية، فلولا الأساس السردي وتحرّر اللغة من عوالقها البلاغية القديمة لما تقبّلت التربة العربية هذا الجنس الأدبي الذي ازدهر ونما وتطور فيها، بدءاً من رواية (غابة الحق) لفرنسيس مراش عام 1860 إلى (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) لرفاعة الطهطاوي، و(الساق على الساق) لمحمد فارس الشدياق، عبوراً لـ (يوميات نائب في الأرياف) و(عودة الروح) لتوفيق الحكيم، إلى مرحلة نجيب محفوظ هرم الرواية العربية والحاصل على جائزة نوبل، ومجايليه من الروائيين العرب كحنا مينه والطيب صالح والطاهر وطار وجمال الغيطاني ومحمد ديب إلى آخر السلسلة الروائية.

بعد مرور مئة عام تقريباً على صدور أول رواية عربية بالمعيار الفني ووفق المقاييس الغربية لهذا الفن (زينب لهيكل عام 1914)، وحتى آخر منجز روائي عربي يمكن أن نتحدث عن رواية عربية لها سماتها وخصائصها المائزة شكلاً ومضموناً.

استعارة الشكل الروائي من الغرب لا يعيب الرواية العربية ولا يقلل من قيمتها، لأن تطور الأشكال وظهور الأنواع ليس مرتبطاً بشخص أو شعب، وإنما هو منجزٌ تاريخي ثقافي تراكمي ملك للبشرية جمعاء، ونتاج تشكيلة اقتصادية اجتماعية سياسية قابل للاستثمار والتوظيف وفق المضامين والموضوعات المحلية.

فإذا كانت الولادة مشوهة تعاني من هجنة في النشأة لا بسبب هجنة الطبقة التي أنتجت الرواية فحسب، بل بسبب عدم توفر الشروط المنتجة للرواية، فعندما توفرت بعض الشروط الموضوعية لظهور الرواية أصبح الحديث عن نشأتها منطقياً.

والمشكل: هل تنتظر ولادة الرواية اكتمال شروطها مقارنة بالصيرورة التاريخية لها في الغرب؟ أم أنها تستطيع الولادة وفق قانون انفتاح المكان واختصار الزمان وثورة الاتصالات؟ في عالم اليوم أصبح من الممكن أن ننجز في عام واحد ما أنجزه الغرب في أعوام شريطة توفر الإرادة لذلك.

إن تجربة الرواية العربية كماً ونوعاً، شكلاً ومضموناً، بنيةً وتكويناً، تقول: إن الروية العربية أصبحت جنساً أدبياً ينافس أهم الأجناس الأدبية في الثقافة العربية، وهو الشعر.

حتى أن بعضهم يقول: أصبحت الرواية ديوان العرب.

ويبقى سؤال النشأة والتطور سؤالاً اكاديمياً تاريخياً، يمتلك مشروعيته المعرفية.

العدد 1105 - 01/5/2024