نصري شمس الدين صوت ماسيّ فيه شموخ صنين وذكاء الأرز

(لكلٍّ من بيئته نصيب) مثلٌ لم يقله الناس، بل قاله الواقع فأثبتته العلوم وأيدته الوقائع. وخير مثال على ذلك: لبنان ومَنْ أهدانا من قامات شامخة كأرزه أمثال:

(نعيمه)، (جبران)، (عقل)، (عاصي ومنصور)، (فيروز)، (صباح)، (الصافي) و(شمس الدين). الأخير الذي يحاكي صوته سقسقة نهر الأوَّلي، وأريج زهر الليمون، وصفاء مياه الينابيع، في مسقط رأسه (جون) المستلقية على كتف البحر.

قد يكون إنصاف الآخرين، من قبل ذوي الشأن والعدل في التعاطي مع المحبين، كنيل ثقة أو إحراز إعجاب كل الناس، غاية لاتدرك. غير أن إغماط البعض حقّهم الساطع، ومن لدن أفراد ومؤسسات كثر، يبقى من الأشياء التي يصعب هضمها، ومن السذاجة أخذها على محمل المصادفة وحسن النية.

نصري شمس الدين هو أحد كبار الفنانين، الذين أنصفتهم الطبيعة، فيما غمط المعنيون حقّهم، وهمّشوا فنّهم، وغضّوا البصر والاهتمام عن حضورهم، سواء أثناء وجودهم بين ظهرانينا، أو بعد رحيلهم عن دنيانا! الأمر الذي يؤسف له ويوضع إلى جانبه غير إشارة استفهام ونبرة استغراب، لاسيما وأن (نصري) كان وبقي، إلى آخر أغنية في أرشيفه، وآخر نفس في حياته، على ما كان عليه، من عزّة نفس وكبرياء وثقافة.

إنه ليوم مشرِّف..

دُوِّن في صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الغناء العربي، وتاريخ قرية (جون) اللبنانية، معاً. يوم 27/حزيران/1927. حين رُزقت أسرة مصطفى شمس الدين، المشهورة بـ (عائلة المشايخ)، بشقيق سابع لصبيانها، ورابع لبناتها، سمّوه (نصر الدين) الذي عُرف فيما بعد باسم (نصري شمس الدين).

درس (نصري) الابتدائية في مدرسة (جون) ثم انتقل بعدها إلى صيدا، ليتابع دراسته في مدرسة المقاصد. وقبل إنهائه المرحلة الثانوية، بدأ بتدريس مادة اللغة العربية في مدرسة (شبعا) قضاء حاصبيا، ثم في (الثانوية الجعفرية) في محافظة صور.

ولمَّا كان الأستاذ نصري (الذي ورث عن والديه جمال الصوت وحب الغناء) يغني مع طلابه عتابا وميجنا، أكثر مما يعلمهم اللغة العربية. فقد خيَّره المُدير أخيراً، بين التدريس والغناء، فاختار الغناءُ نصري، واختار نصري الغناءَ.

محبوبة قلبي هالا..

طَلّو طَلّو الصيادي.. هدّوني هدّوني.. بويا بويا.. نقلي نقلي.. وعالهوب الهوب.. ومحبوبة قلبي هالا، التي استوطنت قلوب وألسنة كثير من آباء وأمهات ذلك الزمن، ممن يعانون ويعانين من محبة (هالا)تهم! هي الأغنيات الأشهر ذيوعاً لـ (شمس الدين) الذي احتفظ ألبومه بـ/1700/أغنية مسجلة. لاقى معظمها صدىً ومحبةً وإعجاباً، في قلوب جمهوره. عدا الأفلام والمسرحيات التي مثلها مع فيروز وصباح.

أول أغنية لنصري (رح حلفك يا طير بالفرقه) كانت من ألحان فيلمون وهبه، وهذه الأغنية التي يتحدث فيها عن عشقه للبنان والأهل ومرابع الطفولة، وتذكرنا بأغنية توءمه الفني وديع الصافي (رح حلفك بالغصن يا عصفور)..

ثم توالت بعدها أغانيه: شبابيك الحلوي بطرطوس.. عالعالي الدار علِّيها.. رجعت حليمة.. ثم يا جدي يا بو ديب.. يا ظريف الطول.. يا أم الأساور.. يا أم الزنار..! لما شفتا عشقتا لحقتا.. إلى رائعته (سعدية) التي (كلما عالدرب بنقشع فستان يلوح/بنقول هيي وبتطلع مَنَّش هيي). إضافة إلى الدلعونة والهوارة والعتابا والميجنا والموال، التي قلّما كانت تخلو منها حفلة لنصري أو سهرة أو أغنية:

يا قلب صرلك من سنين سنينْ

تركض وراهن بس يا مسكينْ

حاجي ورا أهل الحلا ماشي

بتتعب ومش رح يتعبوا الحلوينْ

عندما أجبر (نصري).. على ترك التدريس، لصالح الغناء، قبل أن يؤمِّن عملاً يًحصِّل منه أسباب عيشه، ولم يكن الفن قد فتح له ذراعيه بعد. ارتأى أن ينتقل إلى مصر، حيث كان مجال الفن فيها أرحب، ومساحة العمل أوسع. فعمل فترة في شركة (نحاس فيلم) قبل أن يحمله طموحه للتزود والتمكن في الفن، إلى (بلجيكا) التي عاد منها إلى بيروت، بقلب ينبض بمحبة تراب لبنان، ودبلومٍ يشهد بإتقانه فن الموسيقا.

ولمّا لم يُوفّق نصري، مباشرة بعمل في المجال الذي يحب، فقد توظف في أحد مراكز البريد. حيث بقي إلى أن تدخل القدر عام 1952 ليضع بين يديه إحدى الجرائد، وفيها إعلان عن مسابقة للمواهب الشابة، تجريها إذاعة الشرق الأدنى في بيروت (إذاعة لبنان الرسمية فيما بعد) فيتقدم للمسابقة التي كان ضمن لجنة الحكم فيها الرحبانيان عاصي ومنصور، وحليم الرومي.

فكان نصري من الناجحين، الذين تقرر ضمهم إلى الفريق الغنائي في الإذاعة. حيث سجل باكوراته الغنائية الاسكيتشات الثلاثة : مزراب العين.. حلوة وأوتوموبيل.. وبراد الجمعية. ومن الاسكتشات التي قدمها فيما بعد. اسكتش (عادت إلينا أفراحنا) مع هيام يونس، واسكتش (فارس وسلمى) مع نجاح سلام. وانضم ركناً رابعاً مع عاصي ومنصور وفيروز في المسرح الرحباني عام 1961. إلى أن انفرد عنهم بعد مسرحية (بترا) وافتراق عاصي وفيروز عام 1978.

وعلى الرغم من أن (شمس الدين) كان أحد الأصوات العربية التي استطاعت بقدرتها أن تتحدى الميكروفون، فقد وقع مع كلِّ مَنْ عمل مع فيروز (هدى حداد، جورجيت صايغ، وجوزيف عازار) تحت ممارسة تعتيمٍ واضح من قبل وسائل الإعلام.

تزوج (نصري) يسرى الداعوق عام 1956 وأنجب منها أربعة توائم هُمْ: مصطفى وألماسه ثم ريما ولين. وكما شارك نصري، في كلمات وألحان غير قليل من أغانيه. من تلك الأغاني (ليلى دخل عيونها) وقصيدة (أنا بعرسك جيت غنيلك) التي غنّاها لابنته ألماسه، في حفل زفافها. وقد تمتعت ابنته ريما، بصوتٍ جميلٍ وبقيت تغني حتى وفاته. لتمتنع بعدها عن الغناء احتراماً لرأيه. إذ لم يرد لها أن تواجه ما واجهه هو من صعوبات ونكران وجحود!

لئن قضى نصري واقفاً على أحد مسارح سورية في 18آذار 1983 حين كان يغني لحن ملحم بركات (رح ارمي هالطربوش). فلعل في ذلك ما فيه من توسيم لصدريّ الغناء ونصري، وتنويه بدور سورية التي شهدت ورعت انطلاقة كثير من الفنانين والفنانات العرب.

إلا أن حسرةً بقيت في صدر كل مَنْ يعرف (نصري) ويرفع له القبّعة احتراماً لقامته الفنية، أن يعود جثمانه إلى لبنان، على سطح سيارة أجرة دون تشييعه رسمياً، ووداعها بما يليق به. وإذا كان المقال والمجال هنا، يضيق عن ذكر كل ما تحفظه الذاكرة، ويلهج به الفؤاد، مِنْ نجومٍ مشعّة وأخرى مؤسية، في سماء مسيرة حياة وفن الرائع نصري شمس الدين. فلن يضيق عن إهابتنا بالدولة اللبنانية الشقيقة، أن تجمع الأرشيف الفني لابنها البار، وتحفظه من الاندثار، لاسيما أن مهمة كهذه، تتخطى إمكانات الأسرة وتتجاوز اهتمامات العائلة!

العدد 1105 - 01/5/2024