«أشجار» علي مقوص جذورها في الأرض القديمة وثمارها في سماء المعاصرة

تجربة الفنان علي مقوص، مُفارقة المشهد التشكيلي السوري، وصل صداها إلى المتحف الوطني البريطاني، الذي اقتنى ذات حين لوحته (ملحمة بعل)، وهي عمل بالحبر الأسود ذو مناخ ملحمي يجسد بحميمية شرق أوسطية ملحمة العلاقة مع الأرض والسماء. هذه التجربة التي اكتسبت الكثير من الملامح، كما اكتنزت الكثير من المفردات والعناصر، وكذلك مدت بمجساتها تجاه الكثير من الأماكن البعيدة والقريبة، وأيضاً نهلت الكثير من الذاكرة التي كانت النبع الثرّ الذي يُغذي هذه التجربة على مدى الأيام.

لبوسات مختلفة

الفنان علي مقوص، الذي اشتغل طويلاً على موضوعة (الشجرة) تجسدت هذه التجربة بلبوسات مختلفة، وحتى بعمارة متنوعة، وكان ثمة إغواء يشده باتجاه الشجرة، لتشكّل كل هذا المعطى الجمالي، وقد قرأ الفنان والناقد طلال معلا، في (شجرته) غابة من الأشجار: شجرة المعرفة، شجرة الخطيئة، شجرة المتوسط، فيما قرأها الروائي والناقد نذير جعفر: رمزاً للأم الحقيقية، ورمزاً للأم الكونية عشتار، وكذلك رمزاً لفردوس طفولته المفقود، قبل كل شيء.

يذكر مقوص في حوارٍ لي معه: وأنا صغير كنت أتأمل باندهاش حالة شجرة كبيرة ووحيدة في الفراغ، كنت ألاحظ حميمية علاقتها مع التفاصيل الصغيرة المحيطة بها. وأيضاً علاقتها مع الزمن، وبالتالي ذاكرة الجغرافيا، وكانت تكتمل تلك العلاقة حين تكون ذات أبعاد إنسانية طقوسية أو ملحمية، كان دائماً هناك شجرة كبيرة ذات تكوين معماري ساحر، يتمثل بقوس في الفراغ متلازماً مع التفاصيل ومكملاً للثراء البصري الأرضي. و.. هنا بدأت فكرة الحوار بين ما هو أرضي مادي وما هو سماوي قدسي متداخلاً مع الفراغ. وكان هاجس البحث يتركز في تلك المعادلة (الأرضي- السماوي) أو (المادي – الوجداني أو الروحاني) وهذا ما يضيف طابعاً قدسياً على البحث دون أن تتحول اللوحة إلى أيقونة.

 والشجرة هنا هي مساحة الذاكرة والعاطفة، هي تراتيل وجودية ذات بعد ملحمي، وفي النهاية هي موقف فلسفي يتضمن تمجيداً للطاقة الكونية المتجددة، أو لدورة الحياة الأزلية من خلال الإحساس العميق بالانتماء. إنها تحمل كل مفردات مقوص الروحية، فهي نشيدٌ للحياة والمحبة والحزن. والشجرة كما رسمها هي حالة تجريبية ملحة تأخذ صيغاً وعلاقات متجددة، وتحمل قلقاً تقنيّاً وبصرياً متداخلا مع القيمة المقدسة لضوء السطح المجاور للمسة الحبر الأسود، ويمكن أن يؤدي البحث في هذا الاتجاه إلى صيغة مختزلة ومكثفة لتلك القيمة السحرية. إذ إن أهمية الشجرة التي يرسمها مقوص بالحبر، لا تكمن في أنها شجرة فقط، بل في تأثير علاقتها كخطوط ومساحات وتفاصيل على المناخ البصري والوجداني الذي يحيط بها، وهذا ما يُشعرك بالاستمرارية والحركة المتجددة والمتوالدة في هذا المناخ. وحتى الآن يشعر أن ما هو متكثف من طاقة في لوحة الشجرة، أثقل من أن يكون في تداعيات خطية مبسطة.

صياغات متعددة

ويعتقد مقوص أن الدافع ذاته الذي أدى بفنان الكهوف لأن يرسم الثور في حالات مختلفة، وأن يرسم وينحت عشتار وفينوس لعشرات المرات، هو نفسه الذي يقوده إلى رسم الشجرة. إن البعد الرمزي والخيالي والملحمي لتكوين الشجرة البصري والمحمّل بكثافة وجدانية، يتضمن إثارة للرؤى والمشاعر الحسية. والشجرة التي يرسمها تحمل تداعيات حسية إنسانية تجعلك تتفاعل معها مباشرة وببساطة. وهذا ما يبرر ويفسر تعدد صيغ التفاعل والرؤى، فتأمُّل مساحة الشجرة من خلال علاقاتها مع التفاصيل الأرضية والمناخ الوجداني الذي يغلفها، يكشف زخم الشغف بالحياة والمعرفة والفضيلة والجمال والمحبة.. والقراءات المتعددة للعمل ناتجة عن كثافته الوجدانية الرمزية.

إضافة إلى إغواء مفردة (الشجرة)، ثمة الكثير من الطيور أيضاً في لوحة علي مقوص، و..كان ثمة دلالات لهذه الطيور، التي لها حضورها في لوحته. إنها الذاكرة مرة أخرى التي تقدم له مفرداته الحميمية، وما يعنيه من رسم عصفور، أو طائر، هو فقط قوامه البصري الوجداني الذي يضفي حميميته كمفردة تشكيلية في اللوحة.

الدنكيشوت وتابعه سانشو، هاتان الشخصيتان، اللتان أظهرهما إلى الوجود الكاتب الإسباني سرفانتس، منذ مئات السنين، وهما شخصيتان أقرب إلى (العبثيتين) اللتين تمشيان على حواف الكاريكاتير، كان أيضاً لهما حضورهما في النص البصري لفنان يعيش في شرق المتوسط، فقد كان ثمة استدعاء لحضورهما في لوحة مقوص  (دونكيشوت وفرسه وتابعه سانشو وحبيبته دولشينيا..) فقد كان طالباً في كلية الفنون بدمشق حين تأمل بشغف رسوم (دومييه) الخطّية ل (دون كيشوت) كما تأمل محفورات الطبعة القديمة لكتاب سرفانتس، وقد أغوته التجربة لبعض الرسوم والدراسات، وأيضاً اللوحات التي استوحاها من الحالة الدون كيشوتية. وهي حالة يمكن أن تلاحظ ملامحها حتى في مناخاتنا المعاصرة.

غرام الأسود

وثمة (مغامرة) فنية، هي هاجس علي مقوص في بناء لوحته، مغامرة، لها معالمها وإغراءاتها. فاللوحة لديه هي أطروحة ذات مضامين وجدانية عميقة ومؤثرة. وربما يتلامس مع هذه المضامين في حالة الحبر الأسود أكثر من اللون، فهو يشعر أنها كينونة متأصلة ومتداخلة مع ذاته وهاجسه الكبير، الذي هو البحث في هذا الاتجاه..

ثمة حالة (غرامية) كما وصفها النقاد لتجربة مقوص مع الحبر الأسود، بدأ بها تجربته الفنية، هذا الحبر الذي لايزال حاضراً في تفاصيل اللوحة لديه، حيناً يظهر بشكلٍ جليّ، وطوراً يظهر بشكلٍ موارب، وحكاية هذا (الغرام) مع الغرافيك، إنه ربما يكون الحالة الأكثر اختزالاً للعاطفة أو للطاقة الشعورية ومن ثمّ الحميمية، وربما كانت الصخور التي تحمل تأثيرات الضوء على جذوع الأشجار، وفي الغيوم والنباتات، ما دفعه لفهم القيم الغرافيكية وأهميتها في صياغة البعد الشعوري المتعلق بتراجيديا الزمن في اللوحة، فهو يعمل كما يقول – لتوليف الحس البصري الغرافيكي مع التصويري في مختلف مفصل التجربة لديه.

وما بين البدايات مع الحبر الأسود الذي جاء على شكل (أعمال صحفية) في جريدة الثورة السورية، ومن ثم تآلف الحبر الأسود مع غنى الألوان الزيتية لاحقاً،

تشكّل لديه هاجس مستمر للبحث عن توليفات جديدة مؤثرة واستثنائية بخصوصيتها. فقد شعر منذ زمن بعيد بأهمية أن تفهم جدلية العلاقة بين الحبر الأسود والضوء الأبيض. وحاول أن يُثري فهمه لهذه العلاقة، ذلك أنه يمكن أحياناً أن يمنحك الحبر الأسود الإحساس بماهية المادة وخصوصيتها، ذلك لأنه الأكثر تلاحماً مع فلسفة العلاقة بين الزمن والمادة.

العدد 1105 - 01/5/2024