نام الغزال.. مدائن الحب الباقية

في مجموعته الأخيرة (نام الغزال)  يجوب الشاعر نزار بني المرجة فضاءات الشعر الصوفي الفسيحة، متكئاً على توحّد روحي مع تجربة الشيرازيين سعدي (القرن الثالث عشر الميلادي) وحافظ (القرن الرابع عشر)، فيهدي الكتاب إلى (شيراز) مدينة الشعراء والينابيع والتاريخ، والى الشاعرين العلمين سعدي وحافظ.

ومنذ العنوان تتبدى شعرية القول لدى الشاعر، إذ من جملة فعلية (فعل وفاعل) تنطلق طيور المعنى إلى سموات لا تحدّ، ففعل النوم فيه موات عابر، لكن لنوم الغزال هنا جمالية الكائن نفسه ثم خفته، فهو الذي تتربص به الوحوش على اختلافها، ونومه ما هو إلا استراحة بين مطاردتين، موت يطارد حياة.

يتلمس عطور (روضة الورد ـ كلستان) في القصيدة الأولى التي يحمل الديوان عنوانها، وهي (رسالة إلى الناس لحظة رحيل سعدي الشيرازي في روضة الورد).

هنا تسفح القصيدة شدوها على الغزال الذي نام، وتدعو تكراراً: لا توقظوه، لا تقلقوه، وفي غنائية عذبة هادئة كما كل قصائد المجموعة يقف خاشعاً أمام علم من أعلام الشعر الفارسي والصوفي، الذي كتب بالعربية إضافة الى الفارسية جرياً على عادة الشعراء المتصوفة في بلاد فارس، وكانت مطالع بعض القصائد بالعربية ثم يكمل بالفارسية، كما في هذا المطلع لحافظ الشيرازي، وهو مما يتردد على الألسنة كثيراً، وتبدأ بها قصائد كثير من الشعراء الفرس والاكراد والترك الذين أبحروا في عوالم التصوف والعشق الإلهي:

(ألا أيها الساقي/ أدرْ كأساً وناولْها).

ميزة قصائد (نام الغزال) أنها تمتح من الصوفية أجواء الوجد والشغف والتحليق بالمعنى مع لغة أقرب إلى المعاصرة، لغة تكاد تلامس القصيدة اليومية.

وهكذا يبقى في شيراز المدينة التي تحمل تاريخاً من الضوء والشعر والجمال، فيكتب (تشكيل بالضوء على ليل شيراز)، وهو هنا يرى المدينة في شاعريها أولاً، ثم في روعة زخارفها وألوانها ومعالمها:

(روح وقلب

يضجان بالنبض والحب

يقولان:

كل شيء هنا يبتدي

كل كفر هنا يهتدي) ص12

يرسم الشاعر صوراً متلاحقة ومتكاملة لمدينة العشق والورد والشعراء، ويمشي معك في ليلها المقمر الذي (قمر ساهر هنا/ ليس مثل بدر هناك)، تراقص اللغة العالية سموات الوجد وتترك للقارىء متعة مراودة المخيلة ورسم صورة مترفة بالجمال لشيراز.

والشاعر في تنقيبه عن الجمال لا يقف عند الظواهر والأشكال، بل يتوغل في المعاني والدلالات في مرافعة عن الانسان والنقاء في وجه تغول البشر والحروب والقتل والوحشية المتزايدة، فهو في ملامسته ل(نوم) الشاعر ـ الغزال يطرح في العمق أسئلة الوجود وثنائياته المتضادة والمتآلفة في آن، الحياة والموت، الماء والنار، الجمر والرماد، الوجود والعدم.

(دمي.. ماء ورد

دمي… ماء وردي أنا

ونسغ بلون الحياة

لكنه

بين الوجود والعدم

بين جفوة… وودّ أم

يكابد الألم) ص19

بعد أربع مجموعات شعرية وكتاب شعري مشترك بعنوان (قصائد حب دمشقية)، لا يقف الشاعر عند منجزه الشعري، أو يبقى أسير أجواء شعرية بعينها تضمنتها مجموعاته السابقة، بل يبدو واضحاً اشتغاله على التجديد والتجريب، والمزاوجة بين تقنيات قصيدة النثر وجماليات التفعيلة وموسيقاها.

هو يختار مكانه مع الضحايا لا مع الجلاد، مع الفريسة وهي تتحين لحظة حياة في وجه بندقية صياد رجيم، مع الجمال الذي يطارده القتل في كل مكان ويدعوه الى الفرار كالغزال ما استطاع اليه سبيلا.

يكاد الغزال بما يحمله من جمال ووداعة وألفة أن يختصر فلسفة الكتاب، الغزال الذي لا يفترس كائناً، ولم يشكل يوماً خطراً على شجر أو بيئة أو مخلوقات، الغزال المستهدف دائما من الاخرين، حيوانات وبشراً، لكنه يبقى نافراً كقصيدة، متشبثاً بالحياة كما تتشبث شعوب ومدن تتعرض لمحاولات الإمحاء بحياة تمضي عميقاً في التاريخ وتمتح من ماض حافل بالجمال والعطاء.

يتأمل في المزارات ويرسم حياة افتراضية لها، وحكاية باذخة لقيامها واشعاعها، في روحانية تجمع المحسوس والمجرد في أفق مضيء (ها هنا يرقد الضوء).

وكما لو أنّ كل قصيدة ختام المعنى (مثل ساعة رملية/تصلح لمرة واحدة)، كما لو ان الشاعر يكتب وصاياه قصائد، يتأمل في الأبدي، ويوجز حكمته في كلمات، هكذا يحضر الموت مراراً لا كمعادل لانتهاء الحياة، بل كمرآة لقراءة الخفي ومكاشفة الغيب، فمن رماد يعود اللهب:

(نسمة واحدة تكفي

لتتوهج دماء الجمر

ونسمة ثانية

تكفي

كي يخرج من قمقمه

اللهب) ص35

ولأن في البدء كانت الكلمة، والقصيدة كلمات، والحب والألوان والرحيل والحضور والغياب وكل ما يعتري الكائن من طقوس وتحولات تحملها اللغة، يقرأ الشاعر في مجد الكلمة ـ اللغة، وفي  أنسنة الصوت الذي يستحيل كائناً بحواس ومشاعر (للصوت عيون/الصوت يراكم أيها السادة) ص 44.

الحزن الذي يملأ الوقت ويجعل الشاشات لا تصدر لنا سوى الموت يشغل الكتابة الشعرية أيضاً، ويخيم عليها، حين الموت خبر يومي، بل خبر عادي في هذه الحرب المجنونة التي تبدو بلا افق، بلا نهاية، ولا يملك الشاعر إلا حزنه والكلمات مدداً لمزيد من الصبر والحياة في مواجهة هذه الآلة الجهنمية، ويحلم ان يعيش يوما بلا (خبر عاجل)، لكن هيهات لحلم أن يتحقق، يرى بعيني طفل قادم الى الحياة ما كان وما سوف يكون، ما يريده الفقراء خبزاً ثم حرية، والناس العاديون الذين يحلمون بالأمان والشجر والشمس لم يعد لصوتهم الا حضور خافت، كما لو انهم يسكنون القصيدة.

لكن يبقى الحب يشرق بأنواره على روح الشاعر رغم الانكسارات:

(من رآك اشتهاك

بعد نسمة من شذاك

ثم اغمض عينين

كي لا يرى أي شيء سواك) ص68

هنا نلمس بوضوح رؤيا الشاعر في الحب والجمال، رؤيا تستعيد الحلاج والسهروردي والشيرازيين وابن عربي، تنسف الرؤية التقليدية الحسية لهذين الاقنومين اللذين شغلا شعر التصوف: الحب والجمال.

كلاهما من صفات الإله، وكلاهما يتحد بهما وفيهما الكائن مع المحبوب، العابد مع المعبود، الجرم الصغير مع الفلك.

المجموعة تتحمل المزيد من القول لما تزخر ـ مع صغر حجمها ـ من أجواء وحالات وصور، لكنها محاولة في ملامسة الفضاء الشعري لدى الشاعر كما تبدّى فيها، ودعوة للسفر في مساربها الوارفة.

وهي من إصدارات اتحاد الكتاب العرب عام 2014 وتقع في مائة صفحة من القطع الوسط.

العدد 1107 - 22/5/2024