مقامات الكبار

تسمّى بلغة أهل السوق عداوة أولاد الكار، وتعرف في عالم الإدارة والأعمال بالتنافس الإيجابي أو السلبي، ولعلها وجه مما أشار إليه تشارلز داروين بمسمّى الاصطفاء الطبيعي.

هي مزيج من الغيرة والأثرة مضافاً إليه بعض من حب التملك والظهور، مشبع بنكهة الأنا و غير ذلك مما يصعب حصره من دوافع إنسانية عميقة تطبع سلوك الفرد بطابع سلبي تجاه كل من قد يشكل تهديداً بالمنافسة على امتلاك واستحواذ شيء ما يعتقد أنه هو الأحق أو الأجدر به، طبع إنساني أصيل لا تكاد تختلف مظاهره مهما اختلفت الميادين وتبدلت العصور يُكبت حيناً ويدجّن حيناً ويتفجّر قدحاً وذماً وشتائم أحياناً، أما الادعاء بالبراءة منه فذاك ما لا سبيل لمدّع إليه، ويكفي الإنسان شرفاً أن يبلغ في هذا السبيل الصعب مبلغ امتلاك جرأة الإقرار بمكانة المنافس وجدارته بالمنافسة، وقلة هم الذين يملكون من الصفات النفسية والروحية ما يؤهلهم لبلوغ هذا المرتقى الشريف، ولعل ندرة أمثال هؤلاء تنم عن وعورة الطريق نحوه، ولأصحاب هذا المرتقى علامة فارقة تكاد تكون لازمة لكل رائد من رواده سنلمحها عبر استعراض مواقف الأبناء حرفة عريقة تكاد تكون الأبعد صيتاً في هذا الشأن، بالنظر لنوعية السلاح الفتاك الذي يمتلكه أصحاب هذه الحرفة.. سلاح الكلمة الذي يضفي على معارك أبناء حرفة الأدب بمختلف أنواعه وأجناسه صخباً مضاعفاً تتردد أصداؤه عبر الأصقاع والأزمنة، وتاريخ آدابنا البعيد والقريب والشعر منه على وجه الخصوص يعج بأخبار تلك المعارك الطاحنة التي ما انفكت تندلع ما بين كبار شيوخ هذا الكار وصغاره على حد سواء، حتى غدت غرضاً شعرياً مستقلاً بحد ذاته بلغ أوج نضجه في العصر الأموي إبان اندلاع المهاجاة الشهيرة بين أقطاب ثالوث النقائض الذائع الصيت (جرير- الفرزدق – الأخطل)، تلك المنازلة التي أفضت إلى تقسيم المشهد الثقافي وربما الاجتماعي العربي تبعاً لتفضيل أحد فرسانها على صاحبيه حتى فاضت الكتب بالروايات والأحاديث التي ترصد مدى طغيان هذا الجدل المزمن على المجالس والمنتديات، وليظلّ السؤال شاخصاً: أيّهم أشعر؟هذا السؤال الذي اختلفت عليه العرب قاطبة لم يجد أصحاب الشأن ذاتهم حرجاً في الإجابة عنه، فبم أجابوا؟ وماذا كان رأي كل واحد منهم بصاحبيه حقيقةً بعيداً عن تجليات عداوة أولاد الكار المتجسّدة في مطالع قصائدهم ومتونها قدحاً وذمّاً وتجريحاً؟ سُئل الفرزدق عن جرير يوماً فقال: والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها والشابة على أحبابها، وقد قال بيتاً لأن أكون قلتُه لكان أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس، وهو:

إذا غضبتْ عليك بنو تميمٍ  

حسبتَ الناسَ كلهم غضابا

وسأل الخليفة عبد الملك بن مروان جريراً: ما تقول في الفرزدق؟ فقال: في يد الفرزدق والله نبعة من الشعر قد قبض عليها. ولما مات الفرزدق كان جرير خير من رثاه بقوله:

فلا وضعت بعد الفرزدق حاملٌ

ولا ذات بعلٍ من نفاس تعلّتِ

هو الوافد الميمون والراتق الثأي 

إذا النعل يوماً بالعشيرة زلتِ

أما عن ثالثهم (الأخطل) فقد قال جرير: قد أدركته وله ناب واحد ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني به، وقد أعانني عليه كبر سنه، وحين سُئل الفرزدق: من أمدحُ أهل الإسلام؟ أجاب: الأخطل أمدَحُ العرب.

هذه الصورة اللافتة من صور الإقرار المتبادل بين ثلاثة من ألد الخصوم بمكانة كل منهم ومنزلته، ليست طفرة فريدة اختص بها أساطين الشعر في العصر الأموي، فمثل هذه الصورة نراها تتواتر في ميادين أخرى ليست ببعيدة عن الشعر ونقائضه، وتكشف لنا كتب الأدب والتراث عن صور مشابهة شتى لا تنفك تومض بين جولة وأخرى من جولات التنافس في غير ميدان مبددة بعضاً من غبار المعارك الطاحنة بين أولاد الكار الواحد، ففي العصر ذاته تقريباً كان التنافس على الريادة في مجال رواية الشعر والأدب وفنون الكلام على أشده بين اثنين من أرباب هذه الحرفة الرائجة في ذاك الزمان هما أبي عمرو بن العلاء وحمّاد بن ميسرة الدليمي المعروف بحمّاد الراوية، ويروي لنا معاصرهما أبو عمرو الشيباني شهادته التالية: ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حمّاد الراوية إلا وقدّمه على نفسه، وما سألت حمّاداً عن أبي عمرو إلا وقدّمه على نفسه.

وكذلك في ميدان الغناء الوثيق الصلة آنذاك بصنعة الشعر والأدب عامة نجد صوراً عدة تصلح أمثلة في هذا المقام، ومنها ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في موسوعته الفريدة (الأغاني)عن سيد صنعة الغناء في فترة صدر الإسلام والعصر الأموي معبد بن وهب من أنه كان إذا بلغ به الطرب مبلغه يقول: (الليلة أنا سريجي) في تصريح لا لبس فيه عن مدى إعجابه بفنّ منافسه الأبرز في هذا المضمار عبيد بن سريج، وفي الميدان ذاته يروي لنا الأصفهاني أيضاً قصة نادرة لطيفة عن نجمي الغناء والموسيقا والشعر في العصر العباسي إبراهيم بن إسحاق الموصلي وإسماعيل بن جامع السهمي، ومؤداها أن إبراهيم الموصلي غاب عن مجلس الخليفة هارون الرشيد يوماً، فلما كان الغد سأل جعفرَ بن يحيى البرمكي وهو أحد من حضروا المجلس عن حالهم بالأمس فقال له جعفر: (لم يزل ابن جامع يغنينا بالأمس إلا أنه كان يخرج عن الإيقاع) وهو بقوله يريد أن يطيّب نفس إبراهيم الموصلي لعلمه بحال التنافس القائم بينهما على الحظوة في مجلس الرشيد، فردّ الموصلي من فوره: (أتريد أن تطيّب نفسي بما لا تطيب به؟ لا والله ما عطس ابن جامع منذ ثلاثين عاماً إلا بإيقاع، فكيف يخرج عن الإيقاع؟). ويمضي بنا التاريخ لنجد بعد قرون عدة قطباً من أقطاب الشعر العربي الحديث يجيب عن السؤال التقليدي: من أشعر العرب؟ ليرد الكبير نزار قباني بكل ما أوتي من إدراك لمقامات الكبار:(إمارة الشعر لسعيد عقل.. إن رضي بها)!!

كذلك في ميدان الغناء الحديث، لا نعدم من يدلي بدلوه في هذا الصدد، فها هو ذا عندليب الشرق عبد الحليم حافظ حين يُسأل عن رأيه في العملاق وديع الصافي يردّ بدعابة بالغة الدلالة: (أمام صوت وديع الصافي يجب أن نترك الغناء ونذهب لبيع الترمس)!! أما سيدة الغناء العربي أم كلثوم فلا تتحرج بإزاء السؤال ذاته من الجزم القاطع: ( وديع الصافي صاحب أجمل صوت في الشرق).

فلمَ لا يجد هؤلاء غضاضة في الإقرار لمنافسيهم بالجدارة والاستحقاق بالرغم من كل ماقد يعتمل في دواخلهم من مشاعر سلبية – على أحسن وصف – تجاه أندادهم؟ بينما لا نرى عند آخرين سواهم غير الإنكار والكيد والحسد! السرّ يكمن ولا شك في المكانة الرفيعة التي بلغها أصحاب هذه الآراء الجريئة، فالمتمعن في مكانة هؤلاء وغيرهم ممن لا يجدون حرجاً في الإدلاء بآراء منصفة بحق خصومهم يكتشف أن جلّهم في الواقع من أرباب حِرفهم و أسياد ميادينهم وشيوخ طرائقهم،وقلما نجد مثل ذلك عند صغار المتنافسين، فهو إذاً سرُّ من أسرار العظمة تضنّ به إلا على من تنسّم نسمات المجد متربعاً على ذروة من ذراه، ذروة تمنح معتليها إحساساً عميقاً بسمو المقام ورفعة المنزلة وقدرة استثنائية على إطلاق الأحكام من منظور كلي موضوعي مجرّد لا يشوبه هوى ولا يعتريه إرب ولا يثلمه ميل.

العدد 1105 - 01/5/2024