القصيدة وإشكالية النص

هل يمكن أن يظل المشهد الشعري بحاله الراهنة متجهاً إلى مسارات غامضة ومفتعلة، تجعله أكثر إيغالاً في أزمة الحضور والغياب، أزمة التمكن من أن يستعيد قدرته الخلاقة على أرضية ساحة ثقافية تعاني خللاً لا على مستوى الشعر فحسب، بل على المستوى الثقافي بشكل عام، وعلى مستوى الشعر بشكل خاص!

لقد بات مؤكداً، وضمن الراهن المعيش أن غياب فاعلية القصيدة، وانحسار مدها العارم الذي نشط في الستينيات من القرن الماضي نشاطاً ترك بصمته الكبرى في ملف الشعر المعاصر، هذا الغياب نشأ من تراكم عوامل عدة أتت على بنية القصيدة، وأصابت واقع المشهد الشعري في الصميم، فأحالته إلى هذا الواقع الخرب الذي يبدو في جملته واقعاً مأسوياً سيمتد في الزمان أكثر لو بقي الخراب يلحق بهذا الفعل الجميل، واستمرت الإحباطات تنخر فيه إلى ما لا نهاية. إن العامل الأهم الذي أدى إلى خراب الشعر هو هذه الموجة من الكتابات التي لا تمت إلى الشعر بأية صلة كانت من قريب أو بعيد، وانهيار الخيال المثقف الفذ الذي كان يعي تماماً الأصول والقواعد التي أسس عليها البنيان الشعري مملكته الأعلى في كتاب الدهر، وغياب المفاتيح التي تفضي إلى ينابيع القصيدة الحقيقية، بحلول المفاتيح الصدئة مكانها، وانتشار الكتابة الاستهلاكية بطريقة حادة ومزعجة، حتى باتت هي الكتابة الأعم والأشمل في الواقع الثقافي الراهن.

نحن أمام أزمة حقيقية، إذا استمرت في انتشارها واستفحالها فإنها ستترك بصمتها الآثمة والغاشمة لفترة طويلة من الزمان، وسنحسب على حقبة من حقب التاريخ توصم بأنها الأعتى قتاماً وسواداً، إذ لم تخلف للآتي من الأجيال فكراً حقيقياً أصيلاً، وبنية معرفية تقرأ، وتستعاد ملامحها بين الحين والحين. ليست الإشكالية في الشعر مطلقة، فهي الصهيل الذي لم تتغير نكهة صوته في الزمان أبداً، وبقي صداه الجميل يتردد في الأجيال أبداً، حاراً عذباً ندياً. إن الإشكالية تقع في دائرة النص، والذي أنتج ذاك النص. فغالبية النصوص التي نمر عليها هي أشبه بالصدى المشوّه الذي استنهضته من الرميم ركامات من أصوات السطح التي لم تغص في تربة الشعر، ولا أسست لها جذوراً في عالم القصيدة، فجاء مخاض ما تكتب هشاً عقيماً قاحلاً، ولا يملك شيئاً من رحيق الغناء الذي يمسّ الروح فيشعلها. كما الندى يشعل العشب فوق سفوحه العامرة بخضرة الحياة، ولا ينهض اليمام في ذاكرة تتوق للشد وكثيراً، ولا يبعث في الصدور نشوة الثرثرات التي تبثها قهقهة الينابيع في طيور الفجر لتنهض للحياة. إن العديد الذي نقرؤه الآن من كتابات عابرة كغيم الصيف العابر يشكل وجعاً للذاكرة التي تتأذى من صخب الكلام.

إن الكثير مما يكتب هو تكرار لنصوص ظلت الكتابات تدور في فلكها حتى استهلكتها تماماً، وأتت على بقية ما قام فيها من الرحيق والبريق ونضارة الحياة. إن قلة نادرة من الشعراء الصفوة تحاول إعادة مسار الشعر إلى ينابيعه الحقيقية الأصيلة، وتصحيح المسار الذي صار هامشياً جداً تعبث فيه الإحباطات والفوضى، والانهيارات الغاشمة، ولكننا لا نلقي بالاً لكل ما يكتب وينشر، ونفسح المجال أكثر لعربدات الكلام تلك التي بدأت تتسع عربداتها حتى احتلت أمكنة رحبة في الفكر والصحافة. فإذا استمر الحال على هذا المنوال فإننا نغامر بشرف الكلمة، وننحاز أكثر إلى هامشية تقذفنا في النهاية إلى خارج حدود المعقول والمقبول.

لقد آن الأوان حقيقة وفعلاً أن نتبصر جيداً تلك الدروب التي نمشي فيها، ولا ندري إلى أين تقودنا تلك الخطا العمياء، ونحن وراءها لاهثون بلا اتجاه، ولا غايات، ولا أهداف محددة تمضي بنا إلى حيث نروم ونشتهي. ليس الوقت للندب والشجب والبكاء، وليست الكتابة لافتعال أزمات جديدة تضاف إلى ركام من أزمات طاحنة تلف المشهد الثقافي عموماً بالغموض والفوضى. ولكن ما يستثير النفس، ويعمق جرح القلب أكثر، ويبعث على الأسى، أن المشهد الثقافي العربي الذي احتفظ بخصوصيته ونكهته ونسيجه المتميز عبر حقب التاريخ كافة، يتعرض الآن للتهميش والانحسار وانكسار ذاته الفذة التي لازمته على مدار حقب الحياة. إن الشعر يذبح بأيدي الذين لا يتقنون إلا ذبح الكلمة، واستسهال الخوض في أنين الترهات الجوفاء.

كان الشعر سابقاً أجمل ما يقودنا إلى الحياة، وأشهى ما يملؤنا غبطة، ويبعث ديمومة الحيوية فينا حتى الثمالة، كنا نحن نفتش عن ليالي الشعر والأمسيات الدافئة. كانت القصيدة تبعث أمة من رقادها، وخنادق من صحتها، وتملأ الأفق بالنجوم والرايات ونشوة الغناء العظيم، كان ديوان واحد من الشعر يعيد صياغة أمة ووطن ومجد من جديد. نحن لا نريد أن نجعل من الأمس التاريخ الذي نتكئ عليه طوال الزمان، ولا أن تكون ذكرياته هي البصمة الأقوى والأبقى في ذاكرة الأجيال. نحن أيضاً حقبة، ونحن تاريخ، ونحن بصمة لا بد أن نتركها لمن يأتي نافذة في الصميم باقية أبداً بحيويتها وديمومتها الخلاقة، وسيرتها المتوهجة، نحن بحاجة إلى نصوص وشعراء تنهض من خلاياهم الفذة نكهة ما كان من مجد القصيدة والشعر، نحن بحاجة إلى مراجعة الذات، ومراجعة المشهد الثقافي كله لندخل في حقبة جديدة أخرى تحمل في ثناياها ذاك البزوغ الخلاب الذي يعيد للحقائق الحية سطوعها الجميل، ويجعلها في العاليات التي نروم ونشتهي لنخرج من نفق الغياب والانكسار الموجع الحزين إلى آفاق الضياء والعطاء الجميل الوهاج.

العدد 1107 - 22/5/2024