آخر شعراء «الكلاسيكية الجديدة».. إبراهيم منصور: الشعر هو معاناة لبلورة الرؤيا مع الحلم لتسلّق قمة الغاية الجمالية

قد يكون الشاعر السوري إبراهيم منصور، آخر شعراء موجة (الكلاسيكية) الجديدة، كما دُعيت ذات حين، خلال البدايات الأولى للقرن العشرين، تلك الموجة، التي كان فرسانها شعراء شغلوا المنابر طوراً كبيراً، كما شغلوا الناس ردحاً طويلاً من الوقت.. من هؤلاء الشعراء الذين يصحُّ عليهم لقب (الفطاحل) باعتبارهم آخر من حاول دفع الروح في القصيدة العمودية صاحبة الوزن والروي المقفاة، والتي كانت تتقهقر في براثن النظم لزمنٍ طويلٍ جداً، ثم لتعود بعد هؤلاء (المقاتلين) لأجل إحياء القصيدة العمودية مرة جديدة صوب القهقرى، وذلك بعد أن فقدت، أو بعد استنفذت كل جمالياتها التي أرهقت لكثرة إعادة استخدامها على مدى عصورٍ طويلة.

سهول الذاكرة

من هؤلاء القوم من الشعراء الفرسان الذين أعطوا النفس الأخير للقصيدة العمودية الذي جعلها تعيش بشيء من الرحابة على مدى أكثر من نصف قرن، قبل أن تُطيح بها قصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر، و.. إلى الأبد، نذكر: نديم محمد، عمر أبو ريشة، بدوي الجبل، أحمد علي حسن، حامد حسن، وغيرهم، ومنهم بالتأكيد الشاعر إبراهيم منصور الذي يذهب اليوم بكل نشاط لأن يُكمل (قرناً من عمره، مئة سنة حافلة، هنا حيث أزقة الذاكرة ليست ضيقة، وليست أدراجاً، وإنما الذاكرة هنا سهول مفتوحة على الكثير من الحياة، والجمال.

صحيح إن إبراهيم منصور، لم يتسنّ له كما تسنّى لزملائه الفرسان من احتفاء المنابر والإعلام، ذلك أن الرجل – على ما يبدو- لم تكن السياسة تعنيه كثيراً، السياسة التي شغلت الكثير من أقرانه الشعراء، ثم حملتهم على أجنحتها لبعض الوقت، إبراهيم منصور كان يعيش الحياة كما الشعر بكل تؤدة، ودون جلبة، تلك الجلية التي طالما أغُرم بها الكثير من الشعراء، والكتّاب، حتى وصل الغرام لدى البعض إلى درجة الهاجس..

في ظلام الليلِ

من هنا أيضاً، لم تكن تعني إبراهيم منصور مسألة الإكثار من إصدار الدواوين الشعرية، فاكتفى بعدد أصابع اليد الواحدة، أخذت ملامح محددة في القول الشعري، وإن كانت تنضوي تحت مظلة (الكلاسيكية الجديدة) التي أخذت لبوسها العام من الرومانتيكية الأوربية، فكانت هذه الحالة من الألم، والحزن، و.. تحت ضوء القمر و..المتماهي مع الطبيعة.

يقول في ذات قصيدة من ديوانه (أراجيح الضياء):

في ظلام الليلِ في الصمت الرهيب

تحت ضوء الأنجمِ المرتجفه

خافقٌ في وحشةِ الصّدر يذوب

يعجزُ الشاعرُ عن أن يصفه

هو قلب يتذكر

هو نبع يتفجّر

هذا الشعر الذي رأى فيه الشاعر الكبير نديم محمد على ما قدّم به ديوان (أراجيح الضياء) يتميّز بالعفوية، والصدق، و..بصراحة الشعور الأمين، ويضيف صاحب (الآلام): وحسب إبراهيم أن شعره في سماء الوحي والتنزيل، يتبوأ مجلسه في المقام الرّفيع الرّفيع..

دواوين شعر أخذت من مفردةٍ واحدة قاسماً لها كلها في العناوين، هي (الضياء)، وعندما أسأله عن هذا الضياء الذي يتوق إليه لدرجة كان العتبة الأولى في جميع دواوينه الشعرية، إذ كانت (أراجيح الضياء، جراح الضياء، شعاب الضياء،..) وغيرها، فيجيب: للضياء هنا جناحان: واقعي، ومجازي، ويعود ذلك إلى الربع الأول من القرن العشرين، فقد كان مولدي في الأرجنتين عام ،1922 ثمّ كان الانتقال إلى (كرم الزيادة) بالقرب من عين الشرقية في منطقة جبلة، ويردف: كرم الزيادة هي مسكن العائلة الأساسي على هضبة صغيرة ترتدي غابة بين جبلين، هناك حيث كانت المنطقة تنعس في عتمة الجهل منذ قرون، هذه العتمة أرخت بظلالها على النفوس، ومن ثم كانت الضياء هنا ترتسم في العناوين لتُنير شيئاً من العتمة المدلهمة على كل شيء. ويتابع القول: أطلّ ديواني (شعاب الضياء) عام 1999ليتمّ بيدراً لحصيد العقد الأخير من القرن العشرين، بعد شقيقيه الأولين (أراجيح الضياء وجراح الضياء) وهما حصاد عقود خمسة سابقة له. وبالتحديد منذ مطلع العقد العاشر من القرن الفائت، وقد أسميت ديواني هذا (شعاب الضياء) رمزاً إلى تشعّب مواضيعه، ومناسباته، وأحداثه برؤيتها ورؤياها التي أزعم أنها تعبير عن قناعتي بصدق انطباعي، فهي تهاويم أصداء وظلال تخيلات ودموع تتكلم، لكن بعد أن ألبستها اللفظة الشفيفة:

هاكِ شوقي وحنيني فكرا

تلهبُ الصلب، وتكوي الحجرا

قطرةٌ ضاق بها صدري جوى

فذراها..في النوادي خبرا

فالصبا لحن شجيٌّ هائمٌ

والصبا لوحٌ تلوّى سكرا

أمام ذلك أسأل الشاعر إبراهيم منصور: يُحكى كثيراً عن المثاقفة، والتأثر والتأثير، وغير ذلك.. أنت كشاعر كلاسيكي، أين تجد مرجعيتك؟

يُجيب منصور: عندما بدأت بمحاولة الإبداع الغنائي الشعري كنت فتى في الإعدادية، وبفطرة الفتى الريفي الذي عاش مع الطبيعة وخياله، أطللت على النصوص الأدبية من نوافذ ثلاث: التراث: الجاهلي، أو ما قبل الإسلام، والأموي، والعباسي، وما بعدها.

تآخي الإلهام والوعي

يضيف صاحب (شعاب الضياء): وهناك (الأدب الفرنسي بدراسة مناهجه المقررة، وشعراء النهضة أذكر منهم: الأخطل، وأبو شبكة من لبنان، والزركلي، وأبو ريشة، وبدوي الجبل، ونديم محمد، وحامد حسن من سورية.. يقول: أدركت منذ حداثتي أن الشعر هو معاناة لبلورة الرؤيا مع الحلم، هو تآخي الإلهام والوعي في تسلق قمة الغاية الجمالية، وذلك بإيقاع جديد، وإن اجترار التعابير القديمة هو مراوحة في مكان واحد.. ولا يتألف مع التطور، مع الإدراك الكلي أن تراثنا هو نسغ جذورنا، فما نحن إلا ورثة من راحوا، ومعاصرو من نعايشهم، وأجداد من سيأتي.. وهي حلقات ثلاث متداخلة مع الإنسان على سطح هذه الكوكب..

يقول في قصيدة من ديوان (شعاب الضياء):

أخفيت في العمق سرباً من مزاياه

وآن أن أرتدي منه خفاياه

ألقيتُ للإعصار أشرعتي

وجئتُ أرسو بحرفي قربَ ميناه

أنا الجراحُ ولي في طيّها أدبٌ

فالجرح أروعُه في النفسِ أخفاه

و..مع ذلك ثمة قول للشاعر الراحل حامد حسن في شعر إبراهيم منصور، وهو يبدو غريباً، وفيه شيء من طرافة القول على أقله اللعب على الألفاظ، وأخذها من سياقاتها لتخدم فكرة يريد بوحها يقول: لم أر شاعراً – ويقصد منصور- يوازيه في التهالك على طلب الإبداع، واللهث وراء اقتناص الصورة الجمالية..ويضيف: لم يتكئ على (مساند) الآخرين، ولم يتناول – ولو قضمة- من خبز موائدهم، ولم يحسُ – ولو قطرة خمر من دنانهم- لأن الأسد لا يأكل إلا قنيصاً.. ولكن بلغ به هذا الركض الحثيث وراء تصيّد الجديد، وإبداع الصور، حداً جعله أحياناً يعبث بلحية الخليل بن أحمد – كرّمها الله – ويدك بعض (أسبابه) ويقتلع بعض أوتاده لتسلم له الصورة!!

عندما يُسأل أحفادنا

شعر إبراهيم منصور هذا، وهو ما نريده جدّة وتجديداً، ونسعى إليه، وندعو له، و.. يختم: غداً أو بعد غدٍ، عندما يسأل أحفادنا: ماذا أبقى لنا أجدادنا من التراث الشعري، فلا تصعب على المسؤول الإجابة: وقد يجيبهم باعتزاز، وإدلال: حسبكم ما تركه لكم: بدوي الجبل، ونديم محمد، وعمر أبو ريشة، و.. إبراهيم منصور.

عطارةُ الحقل، في أردانها عبقُ

أم ذاك طيبك، والأنسام ينطلقُ

قد صفق القلب لمّا استاف نفحتها

كما يصفّق في حضنٍ الصبا ورقُ

وخاصَرَ الهدبً طيف من مفاتنها

تأنق الطيفُ، حتى قلت لا أثقُ

العدد 1104 - 24/4/2024