التشرد وبساطة النقاش في موضوع العدالة الاجتماعية

لطالما شدني موضوع التشرد على عدة أصعدة، فبالرغم من أنني لم أكن خبيراً في ذلك الموضوع، إلا أنني أمضيت وقتاً طويلاً مع من كانوا ينامون في العراء أيام ما كنت أرتاد الجامعة، وكذلك خلال الفترة التي انخرطت فيها ضمن مؤسسة بلدة هارينجي لتأمين مأوى ليلي خلال الشتاء، وذلك على مدار السنتين الماضيتين، لذا فإنني آمل الآن بأن أكون قد بدأت أستوعب أموراً أكثر حول هذا الموضوع.

ولعل أهم شيء تجدر الإشارة إليه الآن هو أن التشرد – حسب تعريف مشروع شيلتر (المأوى)- يشير إلى أشد أشكال الحاجة إلى لسكن حسب وصفهم، أي أن الأمر لا يقتصر على من ينامون في الشوارع فحسب، بل يتعداهم ليصل إلى الأشخاص الذين يعيشون في سكن مؤقت وليست لديهم القدرة على تحمل نفقات تأمين سقف يؤويهم. وعليه فالتشرد ليس مجرد حالة من حالات العيش وظروفه، بل هو موضوع يؤثر على سائر جوانب حياة المرء، إذ يلقي بظلاله على العلاقات التي تبدأ بالانهيار، كما لا يمكن للمرء الحصول على عمل ما لم يكن لديه عنوان دائم، وبذلك تزيد نسبة خطر التعرض للاستغلال أو الإساءة بسائر أشكالها، لاسيما مع النساء. فخلال عام 2010 فقط سجلت نسبة 28% من النساء المتشردات اللواتي قضين ليلة واحدة (أو أكثر) مع شخص قمن بممارسة الجنس معه دون رغبة منهن، وذلك فقط ليجدن مكاناً يؤويهن.

ومن الصعب بالنسبة للمرء أن يحصي عدد المتشردين في المملكة المتحدة (ويعود ذلك في أغلب الأحيان إلى تعريف مصطلح متشرد بحد ذاته)، إلا أن معظم الأرقام تقارب 400 ألف نسمة، وهذا يماثل تعداد سكان مدينة كبريستول مثلاً، كما قدرت مؤسسة شيلتر بأنه كل دقيقتين يفقد أحد المواطنين في المملكة المتحدة بيته.

ولا شك بأن التشرد يعتبر مصيبة بالنسبة لأي شخص، غير أن بعض الأفكار قد صعقتني على مدار الشهرين الماضيين، كان منها ما يلي:

بالحديث عن الأشخاص الذين ليس لديهم سقف يؤويهم بالمعنى الحرفي، وذلك في كل من هارينجي وأوكسفورد، تبين لي أن أسباب التشرد متنوعة للغاية، إذ ليس هنالك سبب بسيط واحد يدفع الناس لقضاء ليلتهم في الشوارع، إلا أن أكثر حقيقة صادمة بالنسبة لي تمثلت في أن الكثير من الأشخاص، بل حتى الصغار منهم الذين لم يتجاوز عمرهم ستة أشهر، يتمتعون بكل شيء في آن واحد، لذا فإن احتمال تعرضهم للتشرد يوماً ما يبدو ضرباً من الخيال، غير أن القيام بقرارات خاطئة هنا أو هناك، أو انهيار علاقة ما، أو الوقوع في الدين فجأة، أمور تأتي بلا تخطيط، إلا أن الوضع يكون قد تدهور قبل أن يدرك المرء أنه وقع في تلك الورطة.

أما الحقيقة الثانية فتمثلت بالآتي: إن فكرة صعوبة فهم الأسباب التي تؤدي للتشرد تفيد بأنه من الصعب أيضاً التوصل لعلاج لتلك المشكلة، فبالرغم من وجود العديد من المؤسسات الخيرية من أمثال شيلتر وسنتر بوينت وكرايسيز في بريطانيا، والتي تسعى جميعاً لإيجاد حلول لحالة التشرد على المدى البعيد، إلى جانب المؤسسات من أمثال مؤسسة كنائس هارينجي التي تعمل على تأمين مأوى ليلي خلال الشتاء والتي أصبحت عضواً فيها، والتي لا تقدم حلولاً بعيدة الأجل، بل تعمل بكل بساطة على تلبية احتياجات تلك الفئة من الناس خلال أشهر الشتاء الباردة في أغلب الأحيان. غير أن الحقيقة بالرغم من ذلك تتمثل في أن القائمين على تلك المشاريع والمؤسسات لا يتوصلون في معظم الأحيان إلى قرار جامع حول أفضل الأمور والآليات الواجب اتباعها، وهذا ما تجلى في قرار مجلس ويستمنستر الذي صدر السنة الماضية بخصوص منع تقديم وجبات الحساء، إذ لم يأت ذلك القرار بدافع من الحقد أو الأنانية، بل جاء لأن من أقره كان يؤمن بأنه سيفيد المتشردين بقراره على المدى البعيد.

وأخيراً، فإن أكثر فكرة بقيت تؤرقني طيلة حياتي هي تلك الفكرة التي تبتعد عن موضوع التشرد لتصل إلى وضع العدالة الاجتماعية ككل، إذ لطالما كنت أفكر بعبثية هذا العالم، إذ كيف يمكن لشخص أن يمتلك ساعة يد تعادل قيمتها 50 ألف جنيه إسترليني أو أن يمتلك يختاً بقيمة خمسة ملايين جنيه استرليني، أو منزلاً قيمته 20 مليون جنيه إسترليني، في الوقت الذي يكون فيه شخص آخر، قد لا يبعد عنه سوى بضعة أميال، يتضور جوعاً ويقضي ليلته في الشارع؟!! وهل من المجدي أن نجري مقارنة كهذه أصلاً؟ أم أن الضرر المباشر لانتهاج النهج الرأسمالي يتمثل بالقضاء على الفقر يوماً ما واجتثاثه من جذوره؟

وإذا فكرنا أبعد من ذلك بقليل نجد أن هنالك شخصاً قد يكون لديه قصر مؤلف من عشرين غرفة، لكنه ينام في غرفة واحدة فقط، لذا ما الضير في أن يتبرع ذلك الشخص بالغرف التسع عشرة الباقية لأشخاص مشردين في مدينته؟ وهنا علي أن أكرر مرة أخرى أنني أدرك تماماً صعوبة تنفيذ ذلك والطبيعة غير العملية لتلك الفكرة، لكنني أفكر بأن على رجل مثل هذا أن يفكر بمواضيع مثل الصحة والأمان وإبلاغ مجلس المدينة، وغير ذلك من الأمور.

إلا أنني أشعر بأننا – نحن الغربيين- غالباً ما نختبئ خلف الحاجز المتمثل بعدم قابلية الفكرة للتطبيق، لينتهي بنا الأمر دون تقديم ما يستحق الذكر.

أحب أن أقول في النهاية بأني أحببت أن أشارككم هنا بموضوع يهمني في حياتي، إذ سمعت مرة بأن قدمي الأم تريزا قد تشوهتا في آخر أيامها، ويعود السبب في ذلك إلى أنها كانت كلما وصل إلى الدير الذي توجد فيه أحذية مستعملة ليتم توزيعها على الفقراء والمشردين كانت تبحث بينها عن أردأ زوج بحيث يكون من نصيبها هي دون غيرها، لذا فبعد مرور سنوات طويلة على تلك العادة تشوهت قدماها تشوهاً كبيراً.

فلنتخيل كيف سيكون شكل العالم لو تحلى كل منا بتلك الصفة وتبنى ذلك الموقف، ولنتخيل كيف ستصبح المملكة المتحدة في حال قيام 100 ألف أسرة إنكليزية باستضافة متشرد واحد ضمن إحدى الغرف الفائضة في بيوتهم.

هل كنت سخيفاً عند طرحي لهذه الفكرة؟ وهل الاعتماد على البساطة في النقاش تساعد على حل الأمور مع هذا النوع من المواضيع؟

سام توملين

عن موقع سوشال جستيس فيرست  

العدد 1105 - 01/5/2024