ضياء السكري.. سفير الموسيقا السورية إلى العالم

في موسيقاه نشم رائحة الشرق وانتماءه إليه، أبدع في مجالات الموسيقا كافة تاركاً إرثاً وتجربة موسيقية فريدة، أعماله متعددة وجميلة استطاع بها الوصول إلى العالمية.

ولد ضياء السكري بحلب 1938 ظهر حبه للموسيقا وهو طفل في السادسة من عمره، تتلمذ وشقيقه نجمي، على يد الموسيقي الروسي ميشيل بوريزنكو الذي كان مقيماً في حلب لمدة خمس سنوات، ثم انتقلا إلى دمشق وانتسبا إلى المعهد الموسيقي الشرقي ليتابعا دراستهما الموسيقية. وفي العام 1951أقيمت حفلة للأمير سعود في نادي الضباط بدمشق قبل أن يصبح ملكاً للمملكة العربية السعودية، وعزف الشقيقان ضياء ونجمي في الحفلة بحضور كبار المسؤولين في الدولة، فلفتا انتباه المسؤولين بعبقريتهما الموسيقية، ما دعا رئيس الجمهورية آنذاك هاشم الأتاسي (باقتراح من الأستاذ الروسي قدمه للوزارة) لإصدار مرسوم إيفاد رقم 1564 تاريخ30 أيلول 1951 يقضي بإيفاد الشقيقين إلى فرنسا لدراسة الموسيقا في المعهد العالي للموسيقا على نفقة الدولة، وحمل القرار توقيع رئيس الوزراء حسن الحكيم بالنيابة عن رئيس الجمهورية. بعد ذلك قُبلا في كونسرفتوار باريس بعد أن اجتازا امتحان قبول صعباً مع جميع المتقدمين للمعهد، وحققا فيه تفوقاً رائعاً رغم كونهما أصغر طالبين في كونسرفتوار باريس.

اتجه ضياء السكري للتأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا، درس جميع العلوم الموسيقية المتعلقة بها مع كبار الأساتذة في ذلك الزمان، ونال الدرجات والجوائز الأولى في دراسة فنون الكتابة الموسيقية، وبعد أن أنهى دراسته عاد إلى دمشق في عام 1967 ليقوم بتدريس الموسيقا في المعهد الموسيقي، ومالبث أن عاد إلى باريس عام 1970 بعد أن تلقى دعوة للتدريس في معاهدها، وفيها قام لسنوات طويلة بتدريس التأليف الموسيقي في أكبر المعاهد الموسيقية في باريس، إذ بدأ بالتدريس في كونسرفتوار سان دونيس، كما درّس في المعهد العالي للموسيقا بباريس، وكونسرفتوار سورين، إضافة إلى إقامته دورات تدريبية موسيقية في جامعة السوربون، واختير عضواً في لجنة تخطيط البرامج التعليمية في اتحاد المعاهد الموسيقية في فرنسا من 1980-1996 وهذه اللجنة تشرف على ثمانمئة معهد موسيقي، ومهمتها وضع البرامج التعليمية لهذه المعاهد.

خاض غمار تعليم الموسيقا للأطفال ووضع لهم وللفتيان بعض المواد الموسيقية المستمدة من قصص ألف ليلة وليلة، له مؤلف دراسة على الهارموني في الموسيقى العربية ومؤلفات سابقة لآلة البيانو والفلوت والكلارينيت نشرت في فرنسا، كما ألّف مقطوعات للمجموعات الموسيقية الصغيرة (الحجرة) والكبيرة (الأوركسترالية) وكتاب عن تدريس الصولفيج طبع ويدرّس في سورية منذ سنوات.

في مجال التأليف الموسيقي بدأ ضياء السكري عازفاً على الكمان مع شقيقه نجمي، إلا أنه سرعان مااكتشف أن التأليف الموسيقي هو ميدانه الحقيقي، فاتجه إليه وأبدع فيه أعمالاً موسيقية بديعة، ورغم أن هذه الأعمال الموسيقية جاءت في قوالب الموسيقا الكلاسيكية الأوربية إلا أنه صاغها بلغة موسيقية شرقية، إذ بنى معظمها على أعمال موسيقية عربية معروفة، وأول مقطوعة موسيقية وضعها كانت لآلتي الكمان والبيانو وبناها على موسيقا (على دلعونا) الشعبية، ويعود تاريخها إلى عام 1965 وعزفها في ذاك العام مع شقيقه للتلفزيون العربي السوري، وتوالت مؤلفاته الموسيقية وبنى معظمها على موسيقا شعبية عربية، ومنها مقطوعة للوتريات من نوع (الفوغ) بناها على لحن شرقي معروف. استخدم في كثير من مؤلفاته آلات موسيقية شرقية مثل مؤلفه (انس ماعلمت)، وفي إحدى مقطوعاته استخدم عدة آلات قانون، واستخدم لكل قانون دوزاناً مختلفاً عن الآخر بحيث تؤدي آلات القانون اللحن بالتدريج، وهذا الأسلوب مستخدم في الموسيقا الأوربية. وقد ترك إرثاً كبيراً من المؤلفات الموسيقية الرصينة ذات طابع يجمع بين الروح الشرقية والأسلوب الكلاسيكي.

من مؤلفاته الموسيقية: (انس ماعلمت) و(المتتالية السورية) و(سين) و(أنشودة المغيب) و(بعل وأنات) و(أغاني من أورنينا) و(ريح الرمال) و(ليلة القدر) و(موزاييك) وغيرها. نجد في أعماله إنساناً يعيش في مدينة حديثة وفي قلبه شوق للوطن وعبق الشرق، هو المبدع المعاصر والإنسان الذي ارتبطت ذكريات طفولته الشرقية بوجوده في تلك المدن.. كان متواضعاً خجولاً دقيقاً بمواعيده، لم يبخل بعلمه على أحد ما جعله محط محبة الآخرين واحترامهم.. عشّش حب سورية بداخله، ورغم أنه عاش بعيداً عنها، لكن العنصر الشرقي لم يغادر أعماله بتاتاً، وهذا ما أكده في أحد لقاءاته بالقول:

(أنا لا أعتبر نفسي خارج الوطن، لأن سورية معششة داخلي.. ولن يغادر العنصر الشرقي من جميع أعمالي). ربطته بوطنه علاقة خاصة، فهو في فرنسا لم ينسَ بلده. ففي نهاية التسعينيات من القرن الماضي خصص جزءاً من زيارته لسورية للقيام برحلات إلى أوابدنا الأثرية من قلاع وقصور ومدن قديمة، وكان لشدة التعلق والإعجاب بها أثر كبير على مؤلفاته التي حملت أسماء تعبر عن هذا التاريخ الجميل، فنتعرف على شرقيتها بدءاً من أول نوتة موسيقية.

قلدته السلطات المسؤولة عن الثقافة الموسيقية بباريس ومعاهدها أوسمة متعددة تقديراً منها لإنجازاته في حقلي التعليم والتعليم الموسيقي.. نال العديد من أشكال التكريم أهمها ميدالية الشرف للعاصمة الفرنسية لعام 2000 وميدالية مدينة سورين، وتكريماً له بعد وفاته نظم أصدقاء الموسيقا في سورية نشاطاً نوعياً وثّق وسجل بعض أعماله الموسيقية بإشراف عازف الكمان (أشرف كاتب) وبمشاركة أكثر من عشرين عازف بيانو، وتم تسجيل أسطوانة مدمجة تحوي على 22 قطعة موسيقية لآلتي الكمان والبيانو من مراحل مختلفة من موسيقاه.

عانى ضياء السكري في السنوات الأخيرة من عمره من مشاكل صحية، ورحل يوم الجمعة 3 كانون الأول 2010م في باريس عن عمر ناهز اثنين وسبعين عاماً، تاركاً إرثاً موسيقياً كبيراً وتجربة موسيقية فريدة.

العدد 1105 - 01/5/2024