في دراما رمضان… إنها في «العناية المشددة» حقاً!

لن يتاح للمشاهد مهما بلغ من جلد ووقت فراغ متابعة كل أو معظم الأعمال الدرامية التي تعج بها المحطات المحلية وغير المحلية من إنتاجات الدراما السورية تحديداً، ناهيك عن أن للكهرباء كلمتها الفاصلة في السماح لك بمتابعة المسلسل الذي تختاره، إذ تضطر للركض خلف المحطات الأخرى التي تعرضه، وهذا ما يجعلك تشاهد الحلقة الواحدة أكثر من مرة فيما تفوتك حلقات.

واقع الحال هذا لا يخفي أن الدراما السورية كما البلد واقتصاده وأمانه وناسه أولاً وأخيراً في (العناية المشددة)، وهو عنوان المسلسل الذي حظي بنسبة جيدة من المتابعة وبسوية معقولة من القراءة السياسية والاجتماعية المنطقية والرؤية المتوازنة للأزمة الوطنية الكبرى التي تعصف بالوطن السوري منذ أكثر من أربع سنوات، وتهدد وجوده وبقاءه كإطار يجمع أطياف المجتمع السوري، وهو من تأليف علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج أحمد إبراهيم أحمد وبطولة  مجموعة من الفنانين منهم عباس النوري وسليم صبري  وأيمن رضا وأمانة والي وديمة قندلفت..

من الأعمال الأخرى التي لفتت الأنظار ولقيت متابعة مقبولة كان مسلسل (العراب) الذي قدم على نسختين قال الكثيرون عنهما ساخرين، نسخة مؤيدة (كتابة حازم سليمان وإخراج المثنى صبح وبطولة سلوم حداد) ونسخة معارضة (كتابة رافي وهبة وإخراج حاتم علي وبطولة جمال سليمان)!!

أما مسلسل (بقعة ضوء) الذي دخل عامه الثاني عشر فقد بدا ظلاً باهتاً لسلاسل بقعة الضوء التي قدمت في الأعوام الأولى لولادته، وكانت تحفل بمواقف كوميدية ساخرة وعميقة غالباً، ومستوى عالياً من الجرأة الفكرية والفنية مع كل العناصر الأخرى المكملة للعمل الفني من موسيقا وإضاءة وأماكن تصوير، كما قدم وجوهاً فنية جديدة، حينذاك أصبحت من الأسماء التي يشار إليها بالبنان من مخرجين وممثلين، إضافة إلى ميزة الكتابة الجماعية للوحاتها التي حررت المسلسل من الرتابة والتشابه والتكرار إلى حدّ كبير، وكرست أسماء مهمة في الكتابة الكوميدية وجدت فرصتها في بقعة ضوء للوصول إلى المشاهد مثل عدنان الزراعي وغيره ممن هجروا الوطن أو هجرهم الوطن أو غيبوا في الاعتقال أو الخطف أو الموت.

بالعودة إلى مسلسل (عناية مشددة) الذي تعرض إلى إرباكات كثيرة من الرقابة قبل عرضه وإلى حذف مشاهد منه أثرت في بنية العمل الدرامية وتسلسل الأحداث ومنطقية الطرح، لكنه رغم كل هذه المعوقات كان أحد المسلسلات التي رممت تراجع الدراما السورية في سنوات الأزمة كنتاج منطقي لحالة الانقسام الوطني التي برزت بوضوح في الوسط الثقافي والفني، وإبعاد أو ابتعاد كثير من العاملين في حقل الكتابة والتمثيل والإنتاج والموسيقا والتصوير عن البلد وتأثر عملهم بالأحداث إلى درجة كبيرة.

أغنية الشارة التي كتبها الفنان أدهم مرشد ولحنها رضوان نصري كانت إحدى الشارات الغنائية المميزة بكلماتها الجميلة ولحنها الشجي للأعمال الدرامية، وانتشرت على صفحات التواصل وبين الناس انتشاراً كبيراً بصوت الفنان اللبناني آدم.

المسلسل لامس بحرفية تفاصيل المأساة السورية ولا بد لعمل يلامس حدثاً دموياً مأساوياً كهذا يتضمن مشاهد عنف صادمة (تجارة الأعضاء والقتل والموت تحت التعذيب) لكن الأهم هو كشف هذا الحلف السيئ الصيت بين الفساد والعنف لدى ما يسمى بتجار الحروب الذين يتوزعون على طرفي الصراع ولديهم مصلحة حقيقية في استمرار الحرب والخراب، وقد أدى الفنان عباس النوري دور تاجر أزمة انتهازي متسلق (أبو معتصم) يستغل آلام الناس وسعيهم لمعرفة مصائر أبنائهم عبر علاقته مع ضابط فاسد يساعده على تسلق سلالم المناصب ويؤمن له الحماية، كما أدى الفنان سليم صبري دور رجل أعمال كبير لا يتورع عن استغلال جميع الحالات لزيادة أرباحه بما فيها التعاون مع مسلحي المعارضة ثم يسارع إلى الانتقال إلى الضفة الأخرى ويظهر على الفضائيات المعارضة كمناضل بعد أن يستنفذ إمكانات استمرار فساده في البلد.

على الهامش هناك حياة تستمر رغم كل هذا الخراب، علاقات حب صادقة مثل تلك التي تنمو بين ابن أبو معتصم العسكري على الحاجز وبين مهندسة نظيفة تحاول ما أمكن الحفاظ على شرف العمل وإعادة إعمار ما هدمته الحرب، وكلاهما يتصادم بشكل طبيعي مع رموز الفساد والعنف والخراب (كمال وأبو معتصم).

استغلال حاجة مهجري الحرب والنازحين لعمل كريم يحفظ كرامتهم ويقيهم ذل السؤال يمارسه نوع آخر من تجار الأزمة (معتصم) الذي يمشي على خطى أبيه في التجرد من كل القيم الاجتماعية والوطنية لتحقيق مآربه.

ورغم وضوح تأثر المسلسل بحذف مشاهد مهمة وجوهرية منه إلا أن عناصره الأساسية من حوار وإخراج وموسيقا وإضاءة كانت مشغولة بعناية بما يكفي لجعله محاولة لإعادة الدراما السورية إلى الواجهة عبر النص المبدع والصادق والقريب من الواقع والإخراج المتقن وأداء الفنانين السوريين الذين صنعوا نهضة الدراما السورية عبر العقدين الأخيرين.

المسلسل يعدنا بجزء ثان، وهو شهادة صادقة ـ ما أمكن ـ عن سنوات مرة ما زالت تعيشها سورية نأمل أن يكون ختامها قريباً.

العدد 1104 - 24/4/2024