نشيد الأنشاد.. معطف «غوغول» النص التاريخي الغزلي

(ليقبّلني بقبلِ فمه، فإنّ حُبّكَ أطيبُ من الخمر، أطيابُكَ طيّبةُ الرائحة، واسمُكَ طِيبٌ مُراق) هكذا تبتدرُ الحبيبة حبيبها، في النّص التاريخي (نشيد الأنشاد) الموجود إلى جانب النصوص والأسفار الأخرى في (العهد القديم) هذا النصّ الغزلي، المشبع بالحسيّة ذو البريق السّاحر الذي لا ينضب، ثمة الكثير من القراءات التي تناولته على مرّ هذا التاريخ وقداستغرب أكثرها وجوده إلى جانب أسفار مقدّسة أخرى كالحكمة والأمثال والجامعة وغيرها، إذ ما مبرّر وجود نصّ عالي الحسية، مليء بكل ألوان وصور الرغبات الجنسية الواضحة التي تشرح ببساطة طقس التزاوج والعشق بين الكائنات بلا مواربة، ولا تتضمّن أيّة إشارة للعلاقة المفترضة مع الله.

يقول النّص: (أدخلني بيتَ الخمر، ورايتُه عليّ الحبّ، أسندوني بأقراص من الزّبيب، أنعشوني بالتّفاح، فقد أسقمني الحبّ، شمالُهُ تحت رأسي، ويمينه تعانقني). هذا النصّ المدهش المفعم بالأدبيّة والماء، أثار ومازال يثير الكثير من الأسئلة الكبيرة، المشروعة لدى القارئ على اختلاف مشاربه وثقافته، إذا اعتبرنا أنه وجد خلسة بين النّصوص وهذا أيضاً غريب على كتاب مقدّس!!، فأين كان سدنة النصّ المشرفون على العقائد الإيمانية وترسيخها وتطهيرها من رجس الغرائز الأرضيّة؟ ثمّ ما معنى نسبته لنبيّ قويٍّ كسليمان ؟! يفترض أّنّه مشغول بتكريس وقته ووقت مريديه في الصلوات لكسب رضى الإله، ليتفرّغ للتركيز على الجمال الحسّي العالي الرغبة والإثارة، من ألّفه، ولماذا؟ وبأيّ تاريخ؟ وما معنى أن يجد له مكانة في رتبة (عيد الفصح اليهودي) في وقت لاحق (القرن الخامس ب.م.؟!) بينما يرى فيه البعض مجموعة قصائد وطقوس للأعراس، يعود تأليفها إلى عهد (سليمان) أو بعده بقليل، ولكنّ لغته وإنشاءه تدلانّ أنّه جاء متأخراً في أيام (الفرس) مثلاً، القرن الخامس ق.م (أو العصر (الهيليني) القرن الثالث ق.م، واحتواؤه على كلمات قديمة قد تكون تنتمي لعهد (سليمان) لاينفي حداثته النسبيّة بتطعيمه بكلمات مختلفة أصلها من الريف والمدينة أومن إسرائيل الشمال ويهوذا، ولكن من الواضح أن مؤلفها ليس (سليمان). ولسيطرة هذا النشيد على المخيال الأدبي قراءة أخرى تخوّله امتياز أن يكون بمثابة (معطف غوغول) الذي تدلّى منه النصّ الغزلي التاريخي، إذ يكاد لا ينجو نصّ غزلي حسّي عالي من فخاخه، والتناص معه بشكلٍ أو بآخر.يقول (نشيد الأنشاد): (ثدياك كشادني ظبيةٍ توأمين، يرعيان بين السوسن (…) أنا لحبيبي وحبيبي لي، هو الذي يرعى بين السوسن (…) فإنّ الحبّ قويٌّ كالموت) وهذا ما اتضح من خلال اقتباس الرحابنة لكلمات منه: (أنا لحبيبي وحبيبي إلي) ولم يفلت من سطوته ومناخاته نصّ (محمود درويش): (أنا لحبيبي وحبيبي لنجمته الشّاردة، وشادنا ظبية توأمين… إلخ).

ومن التفسيرات التي قِيلت عنه بشأن نسبته لـ (سليمان) كشأن أسفار (الأمثال) و(الحكمة) و(الجامعة) وهل هو نشيد مقدّس أم دنيوي ما يلي:

1ـ التفسير (الرمزي): ويرقى إلى القرن الأول ب.م (ويفسّر علاقات الذكر والأنثى بمستويين) تاريخي وصوفي.

التاريخي: ويتفرع إلى جهتين، إمّا مواجهة شعب إسرائيل لشعب آخر، أسباط الشمال وتصدّي يهوذا لهم، أو مواجهة إسرائيل لأممٍ أخرى، وإمّا علاقة بين الرب وشعبه.

الصّوفي: أيضاً يذهب بمنحيين: جماعي.. يخصّ الله وإسرائيل، أوالمسيح والبشريّة، وفرديبين الله أو المسيح والنفس البشرية، أو بين الروح القدس ومريم العذراء أو بين (سليمان) والحكمة وهذه الصوفية تتطوّر إما بارتقاء الإنسان إلى الله على مثال الحب في مأدبة (أفلاطون) أو تطوّر جواب الإيمان بالله الذي يقترب من الإنسان.

2ـ التفسير الليتورجي: وهو صيغة أخرى للتمثيل ويرى بنشيد الأنشاد محاولة، لنقل شعائر دينيّة وثنيّة (شرق أوسطيّة) إكراماً لإلهٍ يموت ويفتّش عن حبيبته في الجحيم (إلهة الحبّ والحرب) يمثلهما الملك وعظيمة الكهنة، ويرمز زواجهما المقدّس إلى الاتحاد ويؤدي لتجديد الخصب في رأس السّنة.فالاتحاد الجنسي بهذا التفسير ليس غاية، بل لأجل قضيّة دينيّة.ربما دخلت هذه (الليترجيّة) (أورشليم) في القرن السابع، إذ كيّفتْ فيما بعد بما يتناسب وتفكير إسرائيل اللّاهوتي.

3 ـ التفسير المأساوي: يغفل ما فيه من حالة جنسيّة، محاولاً أن يبيّن أنّ هذا الكتاب لا يحتاج إلى أن يكون صوفيّاً بتحاشي كل ماهو إباحي، ليرى فيه حالة وصف حبّ شريف يقصد فيها الأمانة أكثر ما يقصد الجنس، ففي النشيد ثلاثة أشخاص لا شخصين، إذ نجد أنفسنا أمام مأساة الراعية الأمينة لراعيها، الممتلئ بالغم من سعي (سليمان) لخطفها منه، وبذلك يخفّف هذا التفسير من قيمة الشهوة الغرامية.

4 ـ التّفسير الطّبيعي: ويرى فيه مجموعة أناشيد حبّ فيها بعد واقعي أكيد، على مثال مجموعات الحب المصرية القديمة، تقول أغنية حبّ مصريّة قديمة: كظبيةٍ تجري في الصحراء، بأقدام دامية، وأطرافٍ منهكة القوى، والخوف يخترق جسدها، والصّيادون يجدّون في إثرها ومعهم كلاب الصيد..إلخ) أو على نمط الأعراس السورية التي نجدها في نهاية القرن العشرين في الأردن ولبنان، ومؤلفه دنيوي يصوّر زواج سليمان ببنت الفرعون، ويقولون إنه نشيد إباحي دخل الكتاب المقدس مصادفة، وهناك من يتكلم عن معنى خلقي لحب شريف فينضمّ بذلك عن طريق المثالية أو المأساة إلى أحد التفسيرات السابقة.

العدد 1105 - 01/5/2024