مساهمة نازك العابد في صياغة تاريخ سورية الحديث
لم يشهد تاريخ سورية الحديث مثيلاً لشخصية نازك العابد التي صاغت جزءاً هاماً من هذا التاريخ في المجال الوطني والنضال المتواصل لعقود طويلة تمثّل في الإقدام والشجاعة التي قلّ نظيرها.
انخرطت مبكراً في ساحة النضال الوطني في مطلع القرن العشرين متحدية الاستبداد العثماني والانتداب الفرنسي. وسطرت أروع البطولات ولقبت بـ (جان دارك العرب)، تيمناً باسم البطلة الفرنسية.
لها تاريخ طويل في شتى ميادين العمل الوطني والطبقي والاجتماعي والإنساني يظل صفحة ناصعة وشعلة مضيئة في مسيرة النهوض الوطني بشكل عام، وفي تاريخ الحركة النسائية السورية والعربية بشكل خاص، فقد دعت إلى إشراك المرأة في الحياة السياسية منذ أكثر من قرن ونيف، وناضلت من أجل تحررها من الأمية والجهل، والتقاليد البالية، أدت دوراً رئيساً في تأسيس جمعية (نور الفيحاء) النسائية عام 1924 وعملت في الصحافة وأصدرت مجلة (نور الفيحاء) وشاركت في تأسيس فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية.
ولدت نازك العابد في دمشق عام 1887 كان والدها مصطفى العابد المنحدر من عائلة سياسية عريقة يشغل منصب محافظ الكرك وولاية الموصل في أواخر العهد العثماني.
ونسيبها محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية في عهد الانتداب الفرنسي.
ولدت نازك ونشأت في عائلة وطنية، لكنها عزفت عن مظاهر العظمة، وناصرت الكادحين والمحرومين.
أتقنت الفرنسية والإنكليزية والألمانية، إضافة إلى اللغة العربية، وتابعت في المعاهد الخاصة فنون التصوير والموسيقا، واهتمت بعلم التمريض والإسعاف.
في هذا الوقت كانت نسبة الأمية في سورية لا تقل عن 90%. اهتمت بالقراءة منذ طفولتها وكانت تقرأ لمن هم أكبر منها سناً ووعياً. وهذا الواقع يفسر ميلها إلى الاستقلال والحرية.
وفي العشرينيات من عمرها تعرفت إلى الأديبة (ماري عجمي) التي كانت تشرف آنذاك على مجلة (العروس) وهي أول مجلة نسائية في سورية صدرت عام 1910 فأعجبت ماري بأسلوب نازك في الكتابة مما أتاح لها فرصة نشر آرائها وأفكارها المتنورة التي سبقت عصرها، وأغنت المجلة بمقالات هامة، تدعو فيها إلى تحرر المرأة ورفع مستواها، وثقافتها.
استمرت في طريق النضال من أجل تنظيم حركة نسائية في سورية، بدأت الحرب العالمية الأولى ونفيت مع عائلتها إلى بلاد الأناضول، وكانت مدينة (أزمير) بالذات مقرها، حيث عاشت العائلة في منفاها سنوات أربع، وهناك التحقت نازك بمدرسة أمريكية اسمها (الفردوس) تعلمت فيها الموسيقا والرسم، ومارست التمريض والعناية بجرحى الحرب في المشافي العسكرية. وفي المنفى حملت الكثير من المشاعر والمشاريع لدى الفتاة الطامحة إلى التغيير.
وعندما حطت الحرب أوزارها عام 1918 عادت إلى دمشق، وبادرت إلى تنشيط الحركة النسائية وانضمت في العام نفسه إلى الحركة الوطنية بعد دخول الملك فيصل إلى البلاد.
مناضلة ضد الظلم والاستبداد الذي لحق بأبناء وطنها. نفذت مشروع بناء مدرسة لبنات الشهداء بالتعاون مع عدد كبير من سيدات دمشق. وعهد إليها بإنشاء مشفى للجرحى بعد إسهامها في مجال التمريض في مشاف عسكرية.
لقد شاركت في الحياة السياسية بوعي وشعور عال بالمسؤولية، فحازت على مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة، واستحقت ثقة الملك فيصل وتقدير حكومته، فصدر أمر ملكي بمنحها رتبة عسكرية فخرية (نقيب في الجيش العربي السوري).
وعندما دخل الجيش الفرنسي سورية وأنذر الملك فيصل بمغادرة دمشق، تحرك الجيش والثوار باتجاه ميسلون بقيادة وزير الحربية السوري البطل يوسف العظمة، مضت نازك العابد باندفاع غريب حاسرة عن وجهها مخترقة صفوف المقاتلين الثوار برفقة عدد كبير من نساء دمشق وغوطتيها منهن: زينب الغزاوي وزهيرة شكير، (بعضهن ارتدى ملابس الرجال)، للدفاع عن الوطن وحريته معاهدةً قومها على القتال حتى ينالوا حريتهم في أرضهم.
ويقال إن يوسف العظمة استشهد في ملحمة ميسلون بين يدي نازك العابد التي كانت تتفقد الجنود المقاتلين بلباسها العسكري وتهتم بالجرحى.
وهذا ما ترك في نفسها أخلص الولاء لوطنها، ولم يهدأ لها بال حتى ترى بلادها قد تحررت من كل ضيم وظلم.
أسست النادي النسائي الدمشقي، الذي ضم نخبة من سيدات دمشق، وذلك من أجل إحداث نهضة في الحركة النسائية، فعقدت الكثير من اللقاءات والاجتماعات بين الناشطات والمتعلمات للتداول في سبل إشراك المرأة في الحياة السياسية.
كما أثارت نازك على صفحات مجلتها مسألة حق المرأة في الانتخابات النيابية، وكانت أول امرأة تجرؤ على المناداة بهذا الحق في زمن كان الرأي والموقف فيه حكراً للرجال..
نشاط نازك السياسي والثقافي أزعج سلطات الانتداب الفرنسي، فأغلقوا لها المجلة والمدرسة ومنعوها من عقد ندواتها الخاصة والعامة، مما دفعها إلى العمل المقاوم بشكل سري. فأسدلت الحجاب على وجهها رغم كونها من السافرات ومن الثائرات على الحجاب.
وعندما زار المحقق الأمريكي السيد كراين دمشق تظاهرت نساء المعارضة هاتفات ضد الاحتلال وكانت في مقدمتهن، وخطبت في حشود النساء وأمام كراين نفسه. وقدمت حججاً قوية فيها إدانة للاحتلال وممارساته والمطالبة برحيله، ويقال إنها كانت من أبرز الأسماء التي حملها كراين في أوراقه.
واستمر التضييق على نازك مما اضطرها إلى اللجوء إلى شرق الأردن، كما زارت دولاً عربية وأوربية لشرح قضية بلادها ومطالب شعبها في الحرية والاستقلال.
وقد نوهت الصحف الغربية بجرأتها وبسالتها، وأدى هذا إلى تشديد التضييق عليها أكثر فأصدرت السلطات قراراً بنفيها إلى إسطنبول لمدة عامين (1920 ـ 1922)، ولما عادت عام 1922 إلى دمشق تابعت ببطولة ما تعتبره حقها الشرعي في مقاومة الاحتلال. لكن الفرنسيين جابهوا نشاطها وتحركاتها مدركين خطورتها على أهدافهم ونواياهم فأعادوا نفيها إلى الأردن، فرأت في ذلك بعداً عن المواجهة المباشرة للاحتلال، وبسبب الضغوط الفرنسية عليها تعهدت باعتزال العمل السياسي فأعلنت موافقتها صورياً لتتمكن من النضال في بلادها وتحقيق أهدافها.
وعندما اندلعت الثورة في سورية عام 1925 كانت من أبرز الثوار وأكبر معينة لهم في تحركهم في الغوطة ومحيطها، ومرشدة لهم بصمت وهدوء بعيداً عن الأنظار. اختارت الغوطة لإقامتها والتنقل فيها بين الأشجار الكثيفة والمزروعات والسواقي، فاختلطت بالفلاحين وحرضتهم على الثورة ضد المستعمر، وأدت دوراً هاماً في رفع الوعي لدى الفلاحات الرائعات اللاتي كن ينقلن السلاح والطعام إلى الثوار، وهؤلاء جميعاً ساهمن بشكل فعال في الثورة وفي معارك الاستقلال.
غير أن سلطات الاحتلال استمرت في رصد تحركاتها، إلى أن فرضت عليها الإقامة الجبرية في مزرعة تملكها العائلة في ضواحي دمشق وأقامت عليها حراسة مشددة.
فراحت تشتغل في الزراعة، وتعايش الفلاحين بحب وتواضع وتعاملهم بالعدل وجعلتهم يعرفون حقوقهم.
ورغم أن نشأتها في ظل نظام إقطاعي وسيطرة عثمانية واحتلال فرنسي، لم تحل أبداً دون اعتناق نازك العابد لأفكار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. ومارستها في التعامل مع الفلاحين والفلاحات أثناء العيش في أرضها ومحيطها الزراعي، ونشرت مبادئ الحق والمساواة، وتعاملت كذلك دون ضجة أو ادعاء، لم تكن القناعات التي تؤمن بها في حيز النظريات، بل طبقتها، فأعطت الفلاحين حقهم في العيش والدواء والسكن مما أكسبها حب الجمهور في الريف، وازدياده تعلقاً بالأرض.. وقد وصفتها أيام ذلك الأديبة ماري عجمي بقولها: (نازك فتاة الاشتراكية الطامحة القلب بالآمال).
وفي عام 1929 التقت نازك العابد بالمفكر اللبناني (محمد جميل بيهم)، الذي اختاره أهالي بيروت لتمثيلهم في (المؤتمر السوري)، (وهو أول برلمان عربي في بلاد الشام)، جرى تشكيله عام 1919)، وكان جميل بيهم قد سمع الكثير عنها وأعجب بوطنيتها وتضحياتها، فاتفقا على الزواج وانتقلت إلى بيروت وأسست عدداً من الجمعيات النسائية: جمعية (المرأة العاملة)، وجمعية (تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين)، و(ميتم ومدرسة لبنات شهداء لبنان).
عام 1933 أسست (نقابة المرأة العاملة) التي كانت تعتبر جديدة في حياة المجتمعات العربية، وكان من أهدافها الاطلاع على كل ما له علاقة بظروف المرأة العاملة، وضرورة المساواة في العمل، وتحديد ساعاتها، ومع التشديد على إجازات الولادة.
وفي عام 1957 أسست (لجنة الأمهات في لبنان) لرفع مستوى المرأة اللبنانية وأصبحت رئيسة لها،
وشاركت في العديد من المؤتمرات المحلية والعربية، في كل من مصر وسورية ولبنان والأردن والعراق. كما شاركت في العديد من المؤتمرات النسائية العالمية منها: مؤتمرات الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي (أندع).
امتدت يد القدر إلى المناضلة المكافحة نازك العابد في بيروت عام 1959 عن عمر يناهز الـ 72 عاماً قضتها في نضال متواصل، دفنت في بيروت وأقامت لها المنظمات النسائية اللبنانية حفل تأبين كبيراً شاركت فيه الأحزاب السياسية والأدباء والمفكرون، رجالاً ونساءً، تكلموا عن المناضلة التي زرعت الحب والتضحية والعلاقات المتميزة بين بيروت ودمشق، مشيدين بما قدمته من تضحيات.
أخيراً..
نازك العابد التي شاركت في الحياة السياسية منذ أكثر من قرن وتحدّت الاستبداد العثماني، والاستعمار الفرنسي، وشاركت في معركة ميسلون، والثورة السورية عام 1925 وتعرضت للنفي والاضطهاد والملاحقة ناضلت من أجل حصول المرأة على حقوقها وتحريرها من الأمية والجهل..
أسست الجمعيات النسائية، أصدرت الصحف وشاركت في تأسيس الهلال الأحمر السوري..
أتوجه بالسؤال إلى الحكومة السورية، وإلى الجهات الثقافية والإعلامية المسؤولة، وإلى المنظمات النسائية التقدمية في سورية ولبنان، وإلى الهلال الأحمر السوري، وكل من تعز عليه سورية وتاريخها النضالي والحضاري..
ألا تستحق هذه المناضلة الوطنية الباسلة نازك العابد التكريم رسمياً وشعبياً؟!