مـن أيـن يبتدئُ الوطن؟!

 في لحظات كالتي نعيشها منذ بداية الأزمة في سورية يبدأ كلٌّ منا بطرح الأسئلة على نفسه، وغيره حول مفهوم الوطن، ماهية الوطن، أين يبتدئ؟ وأين ينتهي؟ ما علاقتنا به؟ وما علاقته بنا؟ ونلاحظ فجأة أن الشعراء قد أرّقتهم قبلنا هذه الأسئلة – فيمن أرقت- وأنهم أجابوا عنها ببساطة وسهولة وسلاسة لا تتأتى لغيرهم، لنقرأ مثلاً ما كتبه الشاعرالروسي (م. موتوسوفسكي) في قصيدتِهِ (من أين يبتدئُ الوطن) التي أطلقها إبان الحرب الوطنية العظمى وأصبحت إحدى أهم أغنيات المعركة، وترجمتُها منذ13سنة:

(من أين يبتدئُ الوطن؟

من رسوم في كتاب القراءة

من رفاق حيّك

 المخلصين الطيبين

وربما يبتدئ

من تلك الأغنية التي غنتها لنا الأم!

من تلك الأشياء التي ما كان لأحد

أن ينتزعها منّا رغم صروف الظلم).

من هذه الأشياء البسيطة إذاً يبتدئ الوطن، يبتدئ منذ ولادتك، منذ اللحظات الأولى التي يلامس جسدك فيها ترابه، من ترنيمة الأم، من أغنياتها لك قبل أن تغفو وهي تهدهدك، من الرسوم الأولى في كتاب القراءة، الوطن ليس مجرد تراب وحجارة إنه الناس من حولك،إنه المقعد قدّام المنزل أو في الحديقة تجلس عليه أمك وصاحباتها ويتحدثن ويتضاحكن،إنه لثغتك الأولى وبكاؤك الأول، وضحكتك الأولى، إنه الأصدقاء، الأحباء، المرأة التي أحببت ونجحت في حبك أو فشلت، المعلم الأول، وحروف الهجاء، وجدول الضرب، وشيطناتك التي لا يعرفها إلا الله، وبعد كل ذلك هو ذلك القسم الذي أديته له ذات يوم:

 (من أين يبتدئ الوطن؟

من المقعد القديم قرب البوابة!

من شجرة الحور نفسها التي تهزها الرياح في الحقل

ولا تتوقف عن النمو

وربما يبتدئ

من أغنيات الزرزور الربيعية

من تلك الطرق الريفية

التي لا ترى لها نهاية

من أين يبتدئ الوطن؟

من النوافذ المضاءة في البعيد

من معطف الأب القديم

الذي وجدناهُ في الخزانة

وربما يبتدئ من صريف

عجلات عربات الجنود،

ومن ذلك القسم الذي

حملتَه له في قلبك منذُ الشباب

من أين يبتدئ الوطن؟)

هذه رؤية موتوسوفسكي لوطنه وهو يدافع عنه في وجه النازيين، ألم يكن في وطنه متسلقون ومراوغون ومتملقون ومصفّقون ومهربو مازوت وبنزين ومتعاملون مع الجستابو وسواه؟؟ بلى كان هناك ما هو أشنع من هؤلاء! لكنه لم يحسبهم على الوطن، مثلما علينا نحن أن نفعل ذلك اليوم.

ومهما اختلفت نظرةُ الكتابِ والأدباء إلى أوطانهم فإنها تتقارَبُ وتكادُ تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ في لحظاتِ الشدّة، في اللحظات التي يصبحُ فيها هذا الوطن مُهدّداً، في مثل هذه اللحظات لن تميل إلى عبارة زوربا بطل كازنتزاكي: (سيبقى الناسُ ثيراناً أيها المعلم مادامت هناك أوطان)، بل ستجد نفسك أقرب إلى الشاعر توفيق زيّاد في قصيدته (بأسناني) 1966:

(بأسناني

سأحمي كل شبر من ثرى وطني

بأسناني

ولن أرضى بديلاً عنه

لو علّقت

من شريان شرياني

أنا باقٍ

أسير محبتي…لسياج داري…

للندى … للزنبق الحاني..

سأحمي كل شبر من ثرى وطني

بأسناني!!…).

إنّ كل ما في القصيدة بدءاً من العنوان مروراً بجملها جميعاً يؤكد بما لا يقبل الشك أو الضعفِ أو التساهل تَمسك هذا الشاعر بوطنهِ، حتى ولو دَفَعَ روحهُ وحياته ثمناً لذلك، حتى ولو عُذّبَ ونُكلّ به ليتخلى عن بلده! وستتضخم مشاعِرُ الشاعر وتكبر وتنمو في رؤيته لوطنه، فإذا بهِ أبهى الأوطان وأجملها وأروعها، كما رأينا عند إبراهيم طوقان (1941) في قصيدة (موطني) الشهيرة.

أما إذا جاء الحديث عن الوطن من شاعرٍ مغتربٍ أو منفيٍ فستصبح للوطن صورة أخرى تماماً … صورة مشحونة بالحنين والشوق وتفطّر القلب عند ذكرِ البلاد، فها هو ذا أحمد شوقي الذي يقيمُ في برشلونة الرائعة يحن إلى وطنهِ مصر كما لو كان سجيناً خلف قضبانِ زنزانةٍ مزريّة:

اختلافُ النهارِ والليلِ يُنسي

فاذكرا لي الصِّبا وأيامَ أُنسي

وسلا مِصرَ هل سلا القلبُ عنها

أو أسا جرحَهُ الزمانُ المؤسيَّ

مُستطارٌ إذا البواخِرُ رنّت

أوّلَ الليلِ أو عوتْ بعدَ جَرس

وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنه

نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي

شهدَ اللهُ لم يغبْ عن جفوني

شخصُهُ ساعةً ولم يخلُ حسّي

وستصبحُ الدنيا كلها عند الشاعِرِ المهاجر أو الراحِلِ عن وطنه (أرضَ التيهِ) حتى يعود إليه، كما يقول أبو ماضي:

وطني ستبقى الأرضُ عندي كلها

 حتى أعودَ إليكَ أرضَ التيهِ

سألوا الجمالَ فقالَ هذا هيكلي

والشِعْرَ قالَ بنيتُ عرشي فيهِ

وستصبحُ مدينةُ الشاعر أو قريته منتهى أمله، وهي ما يبتغيهِ من دهرِهِ ويشتهيهِ، وفيها محاسن الدنيا كلها. وهو يحبّها وحدها ولا يشرك في حبّها سواها، يقول نسيب عريضة:

يا جارة العاصي إليكِ المنتهى

أملي وأنتِ المبتغى والمشتهى

قلبي يرى فيكِ المحاسنَ كُلّها

 وعلى هواكِ يُدينِ بالتوحيد

يا حمصُ يا أمّ الحجارِ السود

وسينضجُ الشعور القومي عند الشعراء العرب ذات يوم، فيرونَ الأقطار العربية المتناثرة بفعل التجزئة، والاستعمار وأعوانِهِ، وطناً واحداً كبيراً، ذلك أنّ كل أسبابِ الوحدة وبواعثها ودوافعها متوفرّة بدءاً من اللغةِ الواحدة وصولاً إلى المصير المشتركِ والإرادة الجماهيرية الواحدة وسوى ذلك، كما رأينا عند فخري البارودي في (بلاد العربِ أوطاني) (و عشرات غيره، هنا والآن لن تجد شاعراً يقول ما قاله إبراهيم بن العبّاس الصولي (167هـ- 247هـ):

لا يمنعنّكَ خفضَ العيشِ في دعة

نزوعُ نفسٍ إلى أهلٍ وأوطانِ

تلقى بكلِّ بلادٍ أنتَ ساكنها

داراً بدارٍ وجيراناً بجيرانِ

أو ما قاله محمد بن الحسين البستي (ت:400هـ):

إذا جفاك خليلٌ كنت تألفه

 فاطلب سواه فكل الناس إخوانُ

و إن نبت بك أوطانٌ نشأت بها

 فارحل فكلُّ بلاد الله أوطان

إنك أمام وطن مُهدد بترابه وأهله وحضارته وتراثه وبالتالي فأنت نفسك مهدد بوجودك واستمرارك! لن تطربك دعوات التخلي والمغادرة لأنك حتى لو فعلت فالوطن سيلاحقك.

اسمع ما تقوله الروائيّة مايا أنجيلو (1928م -؟) بصوت هادئ خافت، بل بهمسٍ، مقدمة لنا رؤيةً خَلابة في طريقة الإحساس بالوطن والشعور به: (لم أوافق، حتى عندما كنتُ صغيرة، على عنوان توماس وولف (لا يمكنك العودة إلى الوطن). لم أوافق عليه. لكن الحقيقة هي أنك لا تستطيع ترك وطنك. إنك تأخذه معك، إنه يقبع تحت أظافرك، إنه في جذور شعرك، إنه في الطريقة التي تبتسم بها، في شكل صدرك، في شكل أردافك، كله هناك، أينما ذهبت. يمكنك أن تمثل أنماط وأشكالها طرق الحياة في الأماكن التي تذهب إليها، وحتى أن تتكلم لغتها. لكن الحقيقة أن الوطن يبقى بين أسنانك).

وهنا يمكن أن نستحضر عشرات الشعراء والأدباء ممّن لمسوا أعمق وأدق وأعذب التفاصيل في إحساسهم بأوطانهم لو كانت لدينا الفسحة المرجوّة لذلك، لكنها كانت مجرد رغبة في الإجابة السريعة عن سؤال بسيط وعميق في الآن نفسه: من أين يبتدئُ الوطن؟

العدد 1105 - 01/5/2024