الصورة الأخيرة في ذاكرتي: سميح القاسم.. عدوّان صارعهما .. الصهيوني والسرطان!
اثنان، أراهما، الأكثر شهرة بين البشر، ويمكثان طويلاً في ذواكر سواد الناس، لأجيالٍ عدة، رغم أنهما على طرفيّ نقيض، هما: الحاكم/الطاغية، والشاعر/الشاعر.
الطاغية، في مربع الغلّ والسخط والكراهية، من ذواكر وقلوب ضحاياه ومظلوميه وعموم دعاة الإنسانية.
والشاعر، في مربع الفضل والإعجاب والمحبة، من ذواكر وقلوب عشَّاقه ومريديه وسائر أنصار الأدب.
***
نزار قباني.. محمود درويش.. وسميح القاسم، قامات شعرية سامقة، في فضاء الإبداع، بها تزهو وتشمخ حدائق الأدب، ويعتدُّ ويفخر الأدباء، في دنيا العرب وأربع جهات العالم.
لئن أتت شهرة طيّبي الذكر والشعر هؤلاء، ابنة شرعية، وولادة طبيعية، لموهبتهم الأدبية. في الوقت الذي لم تكن فيه، شهرة كثيرين غيرهم، سوى ولادة قيصرية أو كاذبة، لواحدة أو أكثر من وسائل الإعلام، فقد خالط اللقب الشعري لكلٍّ من الشعراء المنوّه بهم، مقدارٌ من عدم الدقة والإجحاف.
فالقباني، وإن شاركته المرأة، آناء عمره وأطراف شعره، عشقاً وغزلاً واهتماماً. لم يكن يوماً، في وضح الحقيقة والنقد، شاعر المرأة فقط..
ودوريش، وإن عُرف شعره، بصوره البلاغيّة وصيغه المُجنَّحة. فما اقتصرت علامات شعره الفارقة، على تلك البلاغة وذلك التجنيح فحسب..
والقاسم، ومهما أُخذ عنه نداوة عريكته وبساطة جملته، وتعلّقه بهويته، أرضاً وأهلاً، عرباً وفلسطينيين. فلم تكن تلك النداوة والبساطة والتعلّق، وحدها، ما أعطت شعره، تأثيره وانتشاره.
***
عدوّان اثنان صارعهما سميح القاسم وانتصر عليهما:
العدو الصهيوني، برفضه المبرم له، رغم سياحته بين (ردهات) معتقلاته و(منتجعات) سجونه و(جواكيز) زنازينه..
ومرض السرطان، الذي قاومه بمحبة الحياة.. وحياة المحبة. (فكثيراً ما كان أثناء مراجعاته العلاجية للمشفى، يمازح ذوات وذوي المراييل البيضاء، والابتسامات الواعدة ويبادرهم سائلاً: كيف الصحّة؟).
كثيرة هي، متشعبة ومختلفة الحجم والأهمية، المشاريع الفردية المؤجلة، لدى كل منّا، بعامة، ولدى الأديب بخاصة. ومن مفارقات الحياة ومؤلم مصادفاتها، أن لا يتذكر المرء مشروعه، إلا عند رحيل زبطلس ذلك المشروع، ولن نقول موضوعه، ذلك أن (الحيّ مطموع فيه)!
ثلاث صور لصاحب (أغاني الدروب.. ومواكب الشمس.. والرسائل.. والسربيات) يصعب امّحاؤها من الذاكرة، وأظنها باقية ما بقيت:
الصورة الأولى، صورته شخصياً، عندما كان في موسكو، والتقانا نحن الطلاب العرب الدارسين في جامعة الصداقة بين الشعوب (باتريس لومومبا) بمناسبة إنهائنا كورس تعلم اللغة الروسية، قُبيل شروعنا في دراسة مقرر الصحافة في الجامعة.
اللقاء الذي غمرنا، فرحاً وفخراً، طلاباً وأساتذة. وكان بالنسبة لي، واحدة من أحلى الثمار الحلوة، في شجرة سفري إلى (الاتحاد السوفيتي).
إلى تواضع كاتب (سقوط الأقنعة) وأريحيته في الكلام مع محدثه. لفت نظري بل فاجأني بتوقّده حيوية وشباباً. ما لم أشعر معه، بكبير فارق بين عمرينا:
أنا الذي ما زلت – آنذاك – على عتبة طموحي، لأكون صحفياً، تعرفني بعض صحافة بلدي، وأصدقائي، وبعض الصحفيين والقراء..
مَنْ قرأته في «الابتدائية» وحفظت عنه:
مثلما يرمي أبي عنه العباءة
ويُهجّي لأخي درس القراءة
هكذا تنبض في قلبي العروبة
وسميح القاسم (طائر الرعد)، الذي كافح ونافح، بيده وكلمته وفضاء حريته..
(أحد شطري البرتقالة)، الذي عرفتْ أمهات المجلات والمطبوعات كتاباته.. زيّنتْ إصدارته كبريات المكتبات.. تحدث الصديق والعدو عن صموده وثباته.. تُرجمتْ إلى لغات العالم كتبه شعراً ونثراً..
(قيثارة فلسطين) الذي غنَّت وتغنَّت، أفانين الأصوات والألحان، بأشعاره:
منتصب القامة أمشي
مرتفع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي
وأنا وأنا وأنا أمشي!
الصورة الثانية، هي صورته من خلال رواية (الصورة الأخيرة في ألبوم) رائعته التي نراه فيها إنساناً أكثر عشقاً.. أكثر قرباً من وجيب القلب.. أكثر قرباً من (جهات الروح)!
***
أمّا الصورة الثالثة للراحل، أو الصورة الأخيرة له في ذاكرتي. فهي صورتي معه في ذلك اللقاء، الصورة التي، كنت سأصدّرها هذه الأسطر، لو لم يحل دون وجودها، غرورٌ طفوليّ وعزة نفس ساذجة. هيّأا لي آنذاك، أنني سأكون متطفلاً لو فعلتْ، لأنه لا توجد علاقة سابقة، بين الشاعر القاسم وبيني، تبرر لي أخذ صورة تذكارية على خلفيتها. وكأن الالتقاء، بحد ذاته، بشاعر كسميح القاسم، لا يكفي!