الطيور المهاجرة

لعل أخطر ما أفرزته المحنة السورية، ظاهرة هجرة الشباب، ولسنا بصدد تحديد أسباب هذه الهجرة ومناقشة مبرراتها، فهي تبدو لكثيرين ضرورة ملحة للخروج من الأفق المسدود أمام أعداد كبيرة من الشباب المتعطش إلى صناعة مستقبل يليق به وبإمكانياته.

دوافع الهجرة متعددة، ولكن محاولات تبريرها بالأحداث الجارية في الوطن، وحدها، ليست كافية ومقنعة، فكثيرة هي الأوطان التي تعرضت لمحن ومواجهات أشد، لكن أبناءها، بقوا متمسكين بتربة وطنهم، مدافعين عن إرث أجدادهم، محافظين على التواصل بين القديم والجديد في وحدة التشكل لبناء المستقبل المشرق لهم ولوطنهم.

أيها الأبناء المهاجرون، احذروا صقيع الغربة فما يعد لكم في بلدانها، هو نفسه الذي يعد لوطنكم: (الذبح) هنا بالتدمير، وهناك بالاستغلال، مشروع استيعاب أكبر عدد من الأيدي العاملة الشابة السورية هو محاولة لتفريغ الوطن من الطاقة التي تجدد وتبني، هو القضاء على المستقبل، وهو أكبر مشروع استثماري، يشبه إلى حد بعيد تجارة الرقيق.

سرقة العقول والأدمغة قديمة وما زالت الدول المتقدمة تمارس عملية اقتناص الخبرات والعقول والأيدي الماهرة، أما اليوم فالعملية أكثر خطورة، وأوسع، فهي تشمل آلاف الأيدي والخبرات.

لهذه العملية أكثر من جانب، أهمها إظهار الدول الرأسمالية (ألمانيا) بمظهر الدولة الحضارية التي تحتضن الشباب السوري، وتساعده للتخلص من آثار محنته الوطنية.

والهدف الثاني هو إعادة تأهيل المهاجرين وإدماجهم في المجتمعات الجديدة ومدها بطاقات شابة، تعيد إليها ما افتقدته من حيوية ونشاط بعد بلوغها الشيخوخة الاجتماعية.

والهدف الثالث وهو الأخطر، سلخ هؤلاء الشباب عن ثقافتهم وعاداتهم وصلاتهم بوطنهم، وإعادة برمجة عقولهم تحت ضغط الحاجة إلى الملجأ وتأمين ضرورات الحياة، للاستفادة  منهم في مشاريع قد تسفر عن وجهها البشع في المستقبل القريب.

من الصعب تفنيد حجج المهاجرين من الشباب، وكل ما يقولونه يستند إلى أر ضية واقعية، فالوطن في محنة وتأمين احتياجاتهم في الظروف الحالية القاهرة مطلب شبه عسير، ولكن هل الحل في مغادرة الوطن وتركه فريسة للإرهابيين والتكفيريين؟!

من سيقوم بمهمة الدفاع عن الأرض والتاريخ والثقافة والفكر، إذا لم يتصدَّ لذلك الشباب من أبناء الوطن.

بعيداً عن لغة الخطابة وإثارة العواطف، والتغني بفتنة الأوطان / وطن الياسمين، تاريخ الحضارة، بلاد النور هناك ثمة حقائق لا يمكن للإنسان العامل تجاوزها.

الوطن ليس فقط الأرض التي نعيش عليها، والهواء الذي نستنشقه،والماء الذي نشربه، باختصار، ما يوفر لنا سبل العيش، هذا الفهم للوطن، نفعي غريزيّ يتساوى فيه الإنسان مع الحيوان.

الإنسان وحده من ارتقى بمفهوم الوطن من الغريزة إلى الوعي.. الوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو الذاكرة والأحلام والطفولة والشباب والشيخوخة.

الإنسان وحده من طوّر وطنه وجعله أفضل، ووحده الإنسان الذي توصل فهم العلاقة بين الوطن والمواطن.

فكلما كان المواطن محققاً لشروط المواطنة كان الوطن عزيزاً قوياً ومنيعاً.

والعكس صحيحن كلما كان الوطن عزيزاً قوياً موحداً، كان المواطنون فيه أكثر قدرة على الدفاع عنه وصيانته.

في أوقات المحن والأزمات، يرتفع منسوب إحساس الإنسان بالأخطار المحيطة بوطنه، وينغلب الشعور بوحدة الجماعة والدفاع عن الدولة، على المصالح الضيقة الآنية، دون التخلي عنها وفق المعادلة السابقة: وطن حر سيد= شعب سعيد، وشعب يتمتع بحقوقه، وقانون يتساوى الجميع أمامه يقود إلى وطن قوي منيع.

أيها المهاجرون.. الزمن يتغير، والمحن لا بد لها مهما اشتدت من حلول، والوطن بحاجة ماسة إليكم، فلا تتركوه وحيداً، مفتقراً إلى حماستكم، وإمكاناتكم، في إعادة إعماره.

العدد 1105 - 01/5/2024