الصورة الأكثر شهرة في العالم

 لم يكن المصور الكوبي (ألبرتو دياز غوتييريز) المُلقب (كوردا) يتخيل أن الصورة التي التقطها للثائر الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا في ربيع عام ،1960 ستصبح أيقونة ترفعها الجماهير الغاضبة في مظاهرات الاحتجاج في أغلب مدن العالم. وستصبح إحدى أشهر الصور التي تُحمل في صدور الناس، والصورة الأكثر مبيعاً على الإطلاق في تاريخ التصوير الفوتوغرافي، وهو لم يكن بالتأكيد يتصور أنه يخلد بصورته تلك واحدة من الشخصيات التي ستصبح رمزاً للمتمردين والثائرين في أرجاء العالم قاطبة.

ولد المصور ألبيرتو كوردا عام ،1928 وهو عام مولد أرنستو تشي جيفارا، لعائلة كوبية فقيرة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وكان والده عاملاً في السكك الحديدية. درس ألبرتو كوردا في جامعة هافانا، ونال إجازة في الصحافة، ولكنه عمل مصوراً، وقد أنشأ استديو في العاصمة الكوبية عام 1956. التقط ألبيرتو كوردا في هذا الاستديو صوراً لأجمل نساء كوبا في حقبة خمسينيات القرن العشرين. ومع انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو عام 1959 أصبح ألبيرتو كوردا مصوراً لأحداث تلك الثورة، ورئيساً لتحرير جريدة الثورة الناطقة باسمها.

(2)

في الخامس من آذار عام 1960 انفجرت باخرة فرنسية تُسمى (لوك كوبر) في ميناء العاصمة الكوبية هافانا، وكانت تحمل شحنة من الأسلحة البلجيكية، استقدمتها حكومة كوبا، لدعم الثورة في بوليفيا. وقد حمَّل فيدل كاسترو يومذاك، في خطاب شهير، المخابرات الأمريكية مسؤولية ما حدث، والتسبب في مقتل سبعين شخصاً وجرح مئة آخرين. ثم اختتم فيدل كاسترو خطابة بالجملة الشهيرة (الوطن أو الموت) والتي تحولت إلى أعظم الشعارات الثورية في كوبا منذ ذلك اليوم. كان المصور الكوبي ألبيرتو كوردا يلمح بعين خبيرة ثاقبة منصة الخطابة التي التقط فيها صوراً لفيدل كاسترو وللفيلسوفين الفرنسيين جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار الحاضرين في المهرجان الخطابي. ولكن أكثر ما لفت انتباه ألبيرتو كوردا عبر عدسة آلة التصوير هو ذلك الرجل الصامت المتحرك خلف المنصة مع مرافقيه، ببذلته العسكرية وقبعته المكللة بالنجمة الثورية، كان ذلك القائد الشاب هو أرنستو تشي جيفارا.

(3)

شُغف ألبيرتو كوردا بتلك النظرة في عيني أرنستو تشي جيفارا التي تجمع بين العزيمة والألم والإقدام، والتي ارتسمت على وجه تشي في ذلك اليوم. ودون تردد التقط ألبيرتو للقائد صورتين إحداهما عرضية والثاني طولية، وفي كلتيهما أجزاء من وجوه أخرى إلا أنهما تحملان بوضوح وجه أرنستو تشي جيفارا بكل تعابيره. لم يتمكن المصور من التقاط المزيد من الصور، فقد تراجع الثائر الأرجنتيني ليتوارى بين الحضور. وحين عاد كوردا إلى مكتبه في جريدة الثورة عمد إلى نشر أقوال فيدل كاسترو وجان بول سارتر وصورهما، من دون أي ذكر لكلمات أرنستو تشي جيفارا أو صورته التي احتفظ بها المصوّر لنفسه.

(4)

 بقيت صورة أرنستو تشي جيفارا معلقة في غرفة ألبيرتو كوردا سبع سنوات كاملة، وكان قد اختار الصورة العرضية بعدما فضّلها على الصورة الطولية بسبب جزء من رأس أحد الحضور في ذلك المهرجان الخطابي ظهر خلف كتف القائد الثائر، ولم يتمكن ألبيرتو كوردا من محوه بالتقنيات المتوفرة في تلك الأيام. وفي صيف عام 1967 زار الناشر الإيطالي جانكومو فلترينيللي الجزيرة الكوبية لالتقاء أصدقائه وعلى رأسهم فيدل كاسترو حيث اكتسب صداقة الثوريين في كوبا بسبب ميوله اليسارية وبسبب دوره الفاعل في الإفراج عن المفكر والصحفي الفرنسي ريجيس دوبريه مؤلف كتاب (ثورة في الثورة) المعتقل في بوليفيا. يومذاك أظهر الناشر الإيطالي رغبته في الحصول على صورة لأرنستو تشي جيفارا، فحصل من ألبيرتو كوردا على نسختين عن صورته الطولية بحجم 30*40 سنتمتر، اعتبرها ألبيرتو كوردا هدية لضيفه الكريم.

(5)

بعد أربعة أشهر على تلك الزيارة قُتل الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا في أحراش بوليفيا على يد القوات الخاصة البوليفية التي درّبتها الاستخبارات الأمريكية، وذلك يوم التاسع من شهر تشرين الأول عام 1967. انتشر خبر مقتل أرنستو تشي جيفارا كالنار في الهشيم، وتحول الثائر الأرجنتيني من رمز للثورة إلى أسطورة حقيقية وشعار لجيل كامل. وحين أعلن فيدل كاسترو نبأ مقتل أرنستو تشي جيفارا في بوليفيا، لجأ الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم إلى قلمه، فكتب قصيدة (جيفارا مات) ولحنها الشيخ إمام في جلسة واحدة،وبعد أسبوع كانت تتردد في الجامعات المصرية. وكان أن اغتنم الناشر الإيطالي جانكومو فلترينيللي الفرصة ليقوم بإصدار ما اعتبر أول بوستر رسمي عن أرنستو تشي جيفارا وما هو سوى الصورة التي التقطتها عدسة ألبيرتو كوردا وأهداها إلى الناشر الإيطالي الذي أصبح مليونيراً في أيام معدودات. وفي الثامن والعشرين من أيار 2001 توفي ألبيرتو كوردا في باريس. حضر فيدل كاسترو لوداع رفيق دربه، وسط عدسات المصورين الذين حضروا من وسائل الإعلام المختلفة لوداع زميلهم الكبير، الذي تمكن من تخليد رمز ثوري بعدسة آلة تصوير.

العدد 1107 - 22/5/2024