المسافة بين القول والفعل

 كثيراً ما يشكو القراء من عدم التطابق بين سلوك بعض الكتّاب والمبدعين، والأفكار التي يحملها إنتاجهم الإبداعي أو الفكري.. هذه الحالة مفهومة، فالتطابق بين القول والفعل ليس بالعملية السهلة كما يتصورها الذهن، أما القطيعة بينهما فهي الطامة الكبرى.

المثقف (المبدع) مشدود دائماً إلى الواقع الذي يعيش بين ظهرانيه، ومهما حاول المقاومة والترفع عن صغائره يبقى بفعل قوة الجذب منغمساً في مشاكله وهمومه.

الكاتب أو المبدع منتج اجتماعي، يدخل شبكة علاقات اقتصادية اجتماعية سياسية حضارية، ومن الصعب أن يبقى في صومعته الفكرية أو الإبداعية، أو بين الكتب والمراجع التي تشده دائماً إلى النظرية والمثال والنموذج.. هو رهن حالة من التناقض، بين واقع يقوده إلى اليومي المعيش، وأبنية فكرية ثقافية ترتفع به إلى ملكوت الإبداع والتزود بالمعرفة بطبيعتها التراكمية الإنسانية التي تساهم في إنتاجها شعوب الأرض، ماضياً وحاضراً.

فالتوافق بين اليومي المعيش والفكري النظري، في المجتمعات المتخلفة اجتماعياً، وحضارياً يصبح مطلباً عسير التحقق لا يستطيع إنجازه إلا من امتلك قدرة رسولية تحصّنه من تبعات الواقع بإرهاقاته ومتطلباته، فالمبدع أو الكاتب يفكر بشيء ويكتب شيئاً آخر، ويعيش بشكل مختلف عنهما.

طبعاً الازدواجية بين القول والفعل بمدلولها الاجتماعي المعرفي لا تبرر القطيعة والطلاق الكامل، وإلا ما قيمة الثقافة والفكر إذا لم يستطيعا تهذيب النفوس وتقويمها وتصويب خطاها والارتفاع بها نحو الأفضل والأصلح والأبقى؟….المبدع والكاتب، مثال ونموذج يحتذى، فهو مصدر هداية ومنارة وسلوك، فإن تعارضت مواقفه الحياتية مع ما يكتبه، فَقَدَ المصداقية عند القراء.

ثمة من يقول: ما يهمنا من الكتّاب والمبدعين ما يكتبونه وما يبدعونه.. أما سلوكهم اليومي فلا يعرفه إلا حلقة ضيقة من معارفهم، وعدد قرائهم لا يقارن بتلك الحلقة الضيقة.. في هذا القول صواب بيّن، ولكنه لا يقنع تماماً، خاصة إذا كان التناقض جلياً ولا يقبل التصالح أو التبرير.

ولكن أليست الكتابة والإبداع شكلاً من أشكال مخاطبة الممكن ومناشدة المثال والنموذج؟ فالمبدع يحاور ويبتغي الممكنات المتاحة له نظرياً.. هو يكتب ما يصبو إليه في سلوكه اليومي، ويبشر بالقيم التي يعجز عن ممارستها في الواقع، فالقيم والمثل العليا تزداد حضوراً في الفكر بمقدار غيابها عن الواقع.

إن قراءة لسير الكتّاب والمفكرين والمبدعين على المستوى العالمي تبين أن التطابق بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، يبقى من أهم الأهداف التي يسعى المبدعون للوصول إليها، فتتعاظم الهوّة عند منتجي الأدب (الشعر، الرواية، القصة)، وتتقلص عند المفكرين، بفعل تكوينهم وعقلانيتهم التي يقابلها عند الأدباء سرعة الانفعال وحدّة الشعور والمزاجية وتضخّم الأنا في كثير من الأحيان.

في النهاية ينبغي الحكم على المنجز المكتوب، فهو أوسع انتشاراً وأعمق تأثيراً وأبعد غوراً في النفوس، وهذا لا يعني أبداً تسويغ التناقض وتبرير القطيعة بين القول والفعل، لأن حالة الاستواء والتطابق تبقى هي الغاية والهدف عند منتجي الثقافة والفكر، وعند القراء والمثقفين.

ولكن ما هو مفهوم الاستواء؟ أو ما معنى الإنساني السوي؟ أليس الإبداع خرقاً للقاعدة وخروجاً على مفاهيم الاستواء المسطحة؟

فالسويّ هو الذي بمقدوره أن يوفّق بين تخلف الواقع الذي يعيش فيه، ومرجعياته النظرية والمعرفية أياً كانت مصادر إنتاجها، محلياً وعالمياً.. هذا التوافق ينأى به عن الازدواجية التي قد تؤدي، في حال تعاظمها، إلى حالة انفصام مرضية.

العدد 1105 - 01/5/2024