النقد الأدبي.. كيف نتلقاه؟

 أمام هذا الكم الهائل من الإنتاج الأدبي، لابد من رائز متوازن يعطي تلك النتاجات قيمة أدبية ناجحة من خلال النقد، بتسليط الضوء على الجوانب البارزة في العمل الأدبيّ مميّزةً إبداعيّةً كانت أم غثّة مسفّةً. وما هذا الرائز إلا القارئ العزيز بِما يبدي من آراء أوليّة انطباعية، والنقاد من جهة ثانية القادرون على إعطاء القيمة الفنية لعملٍ ما بصدق وأمانة ودون تحيز مع العمل الأدبي، أو ضده، بعيداً عن المزاجية والتعصب. وعلى عاتقه يقع العبء الأكبر في توجيه هذا الكاتب ومساعدته لينطلق انطلاقة صحيحة.

والسؤال المطروح اليوم: ما مدى تقبّل الكاتب منجزاً كان أو مبتدئاً للنقد البناء الموجه لعمله؟ وما هي ردة فعله بغض النظر عن صدق هذا النقد أو عدمه؟ وهل نحن من الشعوب التي تقبل بالنقد وتأخذ بالآراء البناءة؟!

قبل الخوض في هذا المجال لابد من العودة قليلاً للطبيعة البشرية، التي تحمل في جوانبها جانباً هاماً، وهو ميل المرء للمدح والإطراء على ما يعتقده عملاً مميّزًا، فيشعر بلذة عارمة وهو يسمع عبارات الاستحسان والإعجاب، أيًّاً كان العمل الذي قدّمه. فكما أنّ الأديبَ والمدير والموظف والعامل النشيط يودُّ أن يطريَ أحدٌ عملاً أجاده في الأدب، أو حسن الإدارة، أو الكفاءة، أو إتقان العمل، كذلك السارق والمخادع والمجرم يفرح وهو يسمع إطراءً على ما قام به سرقة محكمة، أو مكيدة فاضحة، أو جريمة كاملة حتى ولو كان استمتاعه في الظلّ. فالمدحُ لدى الإنسان مدحٌ سواء ارتقى بعمله أو تدنّى بما قدم. بغض النظر عن القيم الأخلاقية لما قُدّمَ.

انطلاقاً مِمّا سبق سأحصر مقالي بحدود النقد الأدبي، ذلك الباب الواسع لدخول معترك الحياة الأدبية، والضيق في آن واحد، النقدُ الذي يخافه وفي الوقت نفسه، يبحث عنه كلُّ كاتب وأديب وشاعر يغار على أعماله، وباعتقادي هذا بيت القصيد،  إذ يتوجّب على الكاتب مبتدئاً كان أم أديباً متمرّساً، ويريد لنفسه النجاح أن يبحث عن هذا الناقد والقارئ وصاحب الرأي لكي يعرض عليه إنتاجه، فيَسمع منه رأياً بِما كتب، وتوجيهاً فيما بَحث، وإلاّ سيبقى يراوح في مكانه، وسيتكرّر الخطأ إن وُجِدَ، ولكن ما هو حاصل في الواقع غير ما نتمنّاه، فما إن يقوم الناقد أو القارئ أو السامع بإبداء رأيٍ أو توجيه نقدٍ إلى عمل أدبي ما، حتى تظهرَ على الوجوه ردّات الفعل المتفاوتة بين المتلقّيْن مِمّن يوجّه إليهم هذا النقد، أو يطرح عليهم هذا الرأي، وهذا التفاوت يقسم المتلقيْنَ بحسب اعتقادي إلى فئات ثلاث:

الفئة الأولى وممثلوها قلةٌ وهم الذين يتلقون النقدَ بصدرٍ رحب، وروحٍ رياضية سَمحة، يستمعون فيُجيدون الاستماع، ثمّ يأخذون بصحيح النقد سواء أكان قاسياً عميقاً أم لطيفاً شفيفاً، فيعيدون النظر فيما كتبوا بناء على القناعة فيما طُرح من آراء، ويحاورون مراعين أدبيات الحوار البناء، بِما يرونه خاطئاً عند غيرهم صواباً لديهم، مبتعدين ما أمكن عن ردات الفعل القاتلة، متجنّبين طريق التعصب الأعمى لأعمالهم، والعَصبية الهوجاء على من يتوجّهون إليهم بالنقد، يقبلون نقد الْمَنقود، بكلّ محبة واهتمامٍ، يبدون رأياً، ويأخذون برأيٍ، ويفنّدون آخر، بِما لديهم من معطيات. وهؤلاء هم المستفيدون والسّاعون نحو الإبداع والتميّز.

أمّا الفئة الثانية – وهم قلة أيضاً – فهم مَنْ يقبلون بالنقد على مضض، هازّين رؤوسَهم بإيجابٍ مشفوع بابتسامة غامضة، دون أن يظهروا جانب الرفض أو الاحتجاج. يضمرون غير ما يخفون، وهؤلاء مَمّن يحاولون الاعتماد على تقييم أنفسهم بأنفسهم، فيسعون لاسترجاع ما سَمعوا من نقد وآراء، ليضعوها في مكانها الصحيح سواء أكان سلباً أو إيجاباً. وهؤلاء قد يستفيدون من النقدِ، ولكن كلّ بحسب مقدرته النقدية على استيعاب آراءِ الآخرين والأخذ بها دون اللجوء إلى حوار أو نقاش.

أمّا الطامة الكبرى ففي الفئة الثالثة التي تتمنّى نقداً وتطلب رأياً في عملها الأدبي لكنّها لا تقبل النقد ولا تأخذ بالرأي، وترفض وتحتج جهاراً وخفية، انطلاقاً من أنّها تعرض المبدع الذي لم يرَ النور إبداعاً قبله، والعمل الكامل الخالي من العيوب، فتطلب مدحاً لا نقداً، وتريد إطراءً لا استهجاناً، وترى في النقد الأدبي البناء انتقاداً وتجريحاً لملكتهم الأدبية، وتروم هذه الفئة أن تبني مجدًا أدبيّاً عبْر الوَجَاهات والحفلات والإطراء المتبادل؛ متناسية أن هناك جمهوراً متلقياً له الرأي الفصل في نهاية المطاف. وكم من هؤلاء أصبح لديه كم من الكتب لا تجد لها قارئاً فضلاً عن شارٍ. وبالتالي تتعامل هذه الفئة مع الناقد والقارئ من هذا المنطلق، فما إن تسمع رأياً لا يعجبها، حتى تَحمرّ الوجوه غضباً، وتتجمّر العيون حقداً، وتتكدّر النفوس ضيقاً، وإذا كان صاحبنا مِمّن يعرقون تبدأ حبات العرق بالتجمّع لتشكّل مظاهرة احتجاج عارمة على ما يقال لتنسرب بعدئذ هابطة!! ولكن ليس وحدها.

فعلى سبيل المثال كنت في إحدى الأماسي ومجموعةً من المهتمين بالأدب، أحدهم قدّمَ نفسه شاعراً، فاستأذَنَهُ صاحب السهرة أن يلقيَ على الحضور بعضاً مما نظمَ، خاصة أن كَشْكُولَهُ تحت إبطه دائماً، وقلمه فوق أذنه تحسّباً لإلهام مفاجئ، استل صاحبنا رزمة من الأوراق، فاختار أفضلَها!! وراح يُنْشِدُ ما سَماه شعراً وما هو بالشعر، كان منتفخ الأوداج من كِبِرٍ، منفوش الريش من عظمةٍ، وقبل أن ينهيَ ما بدأ، ساد هرجٌ ومرج وضوضأةٌ أنَهت نشيدَه. فبادره من يقول: إنّ ما ألقيتَه ليس بشعرٍ، فلا الوزنَ صحيح، ولا المعنى فصيحٌ. فانتفض انتفاضة مَنْ بلّلَه المطر، وقد احمرّ غضباً، وجحظت عيناه دهشةً، ناعتاً الناقدَ بالبَلَهِ، والحضورَ بالفوضويين، ثم لملم ما بعثرَ من أوراقٍ، حملها وانطلق خارجاً وهو يتمتم ويبرطم، مسفّهاً نفسه لحضوره تلك السهرة.

أختم بهذا التساؤل المشروع والحقيقي، فبدونه لن نرى إبداعاً ولا تطوّراً في مجال العمل الأدبي، وهذا التطور والإبداع يصنعه الكاتب من خلال خضوعه لامتحان المهتمين بالأدب، فيعرض عليهم أعماله، يقرأ لهم ويستمعون إليه، يناقشهم ويناقشونه، فيأخذ بآرائهم إذا أجمعت على الصواب، فيحذف ما يراه رديئاً، ويثبت ما هو مبدع. من ثم ينطلق بعمله معمّماً إياه نشراً وطباعة. أما أن يقوقع الكاتب نفسه ويعزل ذاته، فيعرض عن النقاد فلا يُسمعهم ولا يستمع منهم، وتكون ردة الفعل لديه سلبية دائماً، فيرفض الحوار، ويبتعد عن الناس مخافة نقدهم له، فسيبقى ضمن قوقعته. وتضيع منه فرصة أن يصير كاتباً أو شاعراً، أو أديباً.

العدد 1105 - 01/5/2024