أبا الشفيع… لن يموت أقحوانك!

 لم أكن أتوقع أن ذلك الأحد الأسود سيكبّلني بخبر رحيل واحد من أصدق الأصدقاء، وأنقى الأنقياء، وأكثر الأدباء، الذين عرفتهم، إنسانية وانسجاماً بين القول والفعل. لم أعتقد في يوم من الأيام أن أبا الشفيع، الذي ماعوّدنا إلا على الصدق في أقواله والالتزام في أفعاله، سيخلف وعده صبيحة ذلك اليوم الشديد السواد. ذلك أنه وعدني قبل ساعات قليلة بأنه سيزورني ونشرب القهوة معاً. اتصلت به مراراً وتكراراً..فقد تأخر عن موعده على غير العادة، جهازه كان مقفلاً، وهو الذي لم يعوّد أحداً على قفله، انتظرت قليلاً وانتظرت كثيراً ولكن أبا الشفيع أصر على التأخر عن موعده، أرسلت الأوراق المطلوبة لتقييم قصص الأدباء الشباب إلى المكتب، ولكنه لم يكن موجوداً. غادرت المكان الذي انتظرته فيه ليأتيني الخبر الصاعق بوفاته، لم أصدق، اتصلت بأحد المقربين منه فصدم بالخبر ولم يكن على معرفة به، انتابتني حالة من الذهول والشرود والصدمة من وقع الخبر، عدت أدراجي بين مصدّق ومكذّب للخبر، اتصلت ببيت أبي الشفيع، رُفعت السماعة، أصوات البكاء تملأ زويا البيت، صدقتُ الخبر، لا لم أصدقه، سألت مجيبي: من أنت؟ شفيع؟ قال: لا، زوج ابنته، وهل الخبر الذي سمعته صحيح؟ نعم…أغلقت السماعة بهدوء…لم أتمالك نفسي…فسقطت دمعتان لم يسقط مثلهما على عزيزٍ من بعد وفاة والدي.. عندئذ أيقنت حقيقة الخبر الصادم، وأيقنت أن الإنسان المخلص الوفي الأديب الرقيق الشفيف قد ذهب إلى غير رجعة، صحيح أنني أتمتع بعلاقات جيدة مع الكثيرين من الأدباء والمثقفين والطيبين، إلا أن أخلاق باسم عبدو وإنسانيته كانت نادرة، في زمن طغت فيه الماديات على كل شيء، في زمن تلاشت فيه معظم القيم الإنسانية والضوابط الأخلاقية عند الغالبية العظمى من أدعياء الثقافة والأدب والسياسة، في شخصية أبي الشفيع صفات وملامح تشعرك أن الدنيا مازالت بخير، وفي إقدامه وتبنيه للقضايا العادلة كنت تشعر أن في هذه الحياة ما يستحق البقاء..

لم يكن باسم عبدو يعرف الحقد والضغينة والكراهية حتى على خصومه، أذكر أنني في إحدى المرات تحدثت معه مطولاً عن اختلافٍ في وجهاتِ النظر بينه وبين أحد المثقفين والأدباء، وأن سوء التفاهم يؤثر سلباً على العلاقات الثقافية لاسيما في هذه المرحلة، فبادر صاحب القلب الطاهر النقي للاتصال به والاطمئنان عليه، قائلاً: ليس هناك في هذه الدنيا ما يستحق أن نختلف عليه سوى القضايا المصيرية، والوطن هو قضيتنا الأولى، وهو بأمسّ الحاجة لوحدتنا وتماسكنا والاستماتة في الدفاع عنه كلٍّ من موقعه… حينئذ قبلت جبينه قائلاً: بأمثالك نرتقي ويزدهر بلدنا…نعم هذا هو أبو الشفيع المثقف والسياسي الباسم، بالرغم من كل متاعب الحياة وصعوباتها، هذا هو الوفي لقناعاته والحريص على الجميع حرصه على بيته وعائلته.. عندما قمت بتقديم واجب العزاء لأم الشفيع قالت لي: خسرتَه كما خسرناه…نعم، لقد خسرتُك يا أبا الشفيع كما خسرتْك عائلتك ومحبّوك، لقد خسرتُك كما خسرك كل وطني شريف مدافع عن قضايا المظلومين العادلة. سأفتقد محبتك ونقاء قلبك وصفاء روحك، بعد اليوم لن تتصل بي للاطمئنان عني وعن بحثي الذي أشتغل عليه لنيل شهادة الدكتوراه، بعد اليوم لن تتصل بي لتطلب مني أن أكتب لصحيفة (النور) الغرّاء…آه، ما أحقر هذه الحياة يا أبا الشفيع، بيد أن مثلك ربح الكثير منها، فلم أسمع في حياتي كلاماً طيباً قيل في حق شخص بعد مماته كذلك الكلام الذي قيل فيك وعنك، لقد خيم الحزن على وجوه الجميع عند سماع خبر وفاتك، ولم تسعفهم ألسنتهم ومفرداتهم لإعطائك كلِّ حقك بالرغم من كلِّ ما قيل ويقال من كلام طيب بحقك… صحيح أن البعض ارتاح من مشاغباتك على نفاقه ودجله، إلا أن الغالبية العظمى من معارفك بكتك بكاءً مرّاً… وقد افتقدك الكبير والصغير، افتقدك من عرفك ومن سمع أو قرأ عنك…اعذرني أبا الشفيع إن تأخرت في الكتابة عنك، فلم يكن من السهل عليَّ أبداً أن أتمالك نفسي وأستجمع قواي بعد أن صدقت خبر رحيلك المفجع… صحيح أن جسدك الطاهر قد غادرنا إلى غير رجعة، ولكن روحك الوثابة ستبقى حاضرة ماحيينا، فأقحوانك لم ولن يموت، وغراس المحبة والإنسانية التي حرصت على زراعتها في حقولنا لابد أن تنمو يوماً وتزهر…

العدد 1105 - 01/5/2024