«دوائر الخوف.. قراءة في خطاب المرأة» للمفكر نصر حامد أبو زيد

 كان نصر حامد أبو زيد يمثل فكراً تنويرياً منهجياً يستند إلى قاعدة علمية وفكرية وإيمانية صلبة.دافع عما يؤمن به خاصة مبدأ إثارة التساؤل وكان يرى أن خير الحوار ما كان جماعياً، وطرق البحث والتحليل هي المطلوبة دائماً. عالج مفهوم النص دون أن يخلط المفاهيم بعضها ببعض، فبقي واضحاً في مفاهيمه، وبقي النص بحدود معروفة ومفهومة ودلالات معينة.

لم يكن المفكر أبو زيد الظاهرة الأولى في الفكر العربي، فقد سبقه الحلاج وابن رشد والسهروردي وابن خلدون وغيرهم كثيرون أبوا إلا أن يقولوا كلمتهم.. كان يعرف تماماً مصير من عارض  أصحاب (الامتيازات) التي راكمتها المؤسسات القمعية للفكر على مدى قرون عديدة، ولكنه واجه، بشجاعة، السلطات القمعية وغياب مناخات الحرية والإبداع.. حتى آخر لحظة من حياته..

يقول أبو زيد في مقدمة كتابه: إن الدراسات والاجتهادات التي يتضمنها الكتاب تحاول أن تقارب إشكالية وضع المرأة في الخطاب العربي المعاصر، من زوايا قد تبدو مختلفة، وإن كانت في الحقيقة زوايا متكاملة، فالخطاب العربي المعاصر الذي تركز عليه هذه الدراسات هو خطاب (الأزمة) أو بعبارة أخرى الخطاب (المأزوم) الذي قد يتظاهر غالباً بأنه خطاب (صحوة) أو نهضة، ويسعى إلى تجاوز الأزمة الخانقة الراهنة التي ترتهن الواقع العربي على كل المستويات والأصعدة، هذا الخطاب هو موضوع التحليل النقدي في الدراسات التي يضمها الكتاب.

في كتابه (دوائر الخوف) فصل (حقوق المرأة في الإسلام) يقول: (لقضية حقوق المرأة أبعادها الاجتماعية والشفافية والفكرية داخل كل بنية اجتماعية، كما أن لها أبعاداً ذات طبيعة إنسانية تتجاوز حدود البنية المجتمعية الخاصة، يضاف إلى هذا التشابك والتعقد والذي له بعد خاص في مجتمعاتنا العربية الإسلامية هو بعد (الدين) الذي مازال يمثل مرجعية شرعية وقانونية مستمدة من مرجعيته الأخلاقية والروحية، ومنذ بداية ما سمى عصر النهضة العربي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ظلت قضية تعلّم المرأة (أولاً) ثم تحريرها من التقاليد البالية الراكدة التي تعوق حركة المجتمع بأسره (ثانياً) تحتل أولوية في سلم المهام النهضوية العاجلة.. موضحاً البعد المفقود للمرأة في الخطاب الديني الذي يعالجه النص القرآني بمعزل عن سياق الواقع الاجتماعي العام، فيجري الحديث عن المرأة بوصفها أنثى ونداً للرجل مركّزاً على الفروق العقلية والذهنية والعصبية.

حواء بين الدين والأسطورة

يرى المفكر أبو زيد أن الاجتهادات كانت خاضعة دائماً لظروف تاريخية، فالنص القرآني محكوم بعصره والتفسير ارتبط بحاجات كل زمن وثقافته، ويستند إلى الموروث الثقافي والاجتماعي ومثالاً على ذلك ينقل قصة حواء وخروج آدم من الجنة عقاباُ إلهياً، وكيف فسرت الآيات القرآنية وفق المرويات اليهودية وهي تعبر عن معتقدات ناتجة عما جرى من تأثير بين الدين الإسلامي والأديان التي سبقته لابد أن هناك الكثير من اليهود اعتنقوا الإسلام، وفي تفسير الطبري شرح تفصيلي يحضر فيه التراث اللاهوتي اليهودي إلى جانب اللا معقول، فطرحت بعض التفاصيل مما لم يرد في منطوق القرآن فاختلط تفسيرهم بين الدين والأسطورة.

أراد أبو زيد أن يوضح جوانب اللا معقول في قصة آدم وحواء المعروفة، وهو أن حواء أغوت آدم بتحريض من إبليس الذي خرج من الحية، ويتم تصوير الرؤيا كمؤامرة مدبرة للإيقاع بآدم تشترك فيها حواء والحية بينما يبدو العقاب حسب التفسيرات المأخوذة من الرواية اليهودية استبدادياً ويتناقض مع الطبيعة التي صاغها الإسلام لصفات الله.. والصورة تعكس آدم البريء والمرأة الشريرة، وهذا ما يفسر وقوع الظلم عليها..

فأبو زيد يدعو إلى المحاكمة العقلية في التعامل مع التفسيرات، فالتفسير يجب ألا يتناقض مع قوانين العقل وهذا بدا واضحاً في قضية آدم وحواء، ويسقط أبو زيد هذا التفسير على مجمل خطاب المرأة الذي يعتبره مأزوماً وعنصرياً..

سعى أبو زيد إلى البحث في النص القرآني وفق مفهوم أن الإسلام أجاز الاجتهاد، إذ قدّم هذا الاجتهاد فهماً للقرآن وتعاليم النبي لاستيعاب أهم قضايا المجتمع أي المرأة.. ويعتبر أن الاجتهاد كان خاضعاً دائماً لظروف تاريخية، فالنص القرآني محكوم بعصره والتفسير ارتبط بحاجات كل عصر وثقافته ، ويستند إلى الموروث الثقافي والاجتماعي، بينما يصرّ المتزمتون والظلاميون على مناقشة قضية المرأة من خلال مرجعية النصوص، في تجاهل تام لكونها قضية اجتماعية، فيتم استخدام نصوص شاذة واستثنائية بوصفها نصوصاً ذات دلالة تاريخية مباشرة ولا يعاد تأويلها إلا في ضوء النصوص التي تعد الأساس في قضية المرأة، حسب رأيهم..

ويظهر تاريخ اللغة في كتاب (دوائر الخوف) أنه تاريخ الجماعة.. وفي اللغة العربية جاء الخطاب القرآني ضمن لغة خاطب بها النساء بالطريقة التي خاطب بها الرجل، وهذا تعبير عن وعي جديد دخل منه الخطاب في حالة صراع مع الوعي. وبقدر ما كانت كفة الميزان تميل نحو الوعي كان وضع المرأة يتنامى، بينما كان يتدهور في مرحلة الانحطاط فتستدعى قصة حواء بقراءتها التوراتية وتعلَن النساء ناقصات عقل ودين (وكيدهن عظيم). وهذه الوضعية التاريخية انعكست سلباً على المرأة، ونرى التمييز في جذور بنية اللغة العربية التي جعلت من الاسم العربي المؤنث مواد تحرض على التفريق بين الاسم العربي والأعجمي بواسطة علامة التنوين، كما أن وجود رجل واحد في مجتمع من النساء يفرض الإشارة إلى المجموع بصيغة جمع المذكر بينما اللغات الأجنبية الأخرى حاولت إلغاء التميز بين الأسماء المذكرة والمؤنثة، وهذه الدلالة الجديدة غير موجودة على مستوى الاستخدام المعاصر للغة العربية.. فما زلنا نستند إلى جذور لغة تعود إلى ما قبل الإسلام وخاصة لغة قريش التي أصبحت فيها اللغة العربية الفصحى المستعملة حتى الآن تفرق بين الذكر والأنثى وحتى في بعض الحالات تعطى للأنثى صفة الذكر مثل: قاضي- نائب- رئيس- أمين عام، وكأن هذه المواقع مختصة بالذكور فقط.

العدد 1104 - 24/4/2024