عندما نضع الإيديولوجيا وراء ظهورنا!

 سأبدأ حواري مع الصديق صريح البني بسؤال: هل تحولت الإيديولوجيا إلى مذهب في جميع التبدلات التاريخية التي حدثت منذ وفاة كارس ماركس؟!

وأنا دقيق هنا في تعريف (الإيديولوجيا).. لندقّق معاً يا رفيق صريح:

1- في أمسية كرست للاحتفال بعيد ميلاد كارل ماركس، نظمها صهراه وعدد محدود من أعضاء جمعيات الشغيلة في أوربا، وبعد امتعاضه من المدح والإطراء – حسب ما روى الثوري الألماني (فرانز مهرينغ) في كتابه عن ماركس- قال ماركس مبدياً استخفافه بهذه (التعظيمات) التي اشتمّ منها رائحة (الإيمان المطلق): بقدر ما يتعلق الأمر بي فأنا لست ماركسياً. هذه الجملة التي هلل لها أعداء الاشتراكية، وعدّوها – حسب فهمهم- تراجعاً عن النهج الثوري عند ماركس.

2- كتب ماركس في صحيفة (دوتشيه- فرانزو- ياربشر) عام 1848: يجب علينا أن نتجنب تقديم أنفسنا إلى العالم بصورة دوغماتية، علينا ألا نقول للناس نحن نمتلك الحقيقة فانحنوا لها واعبدوها، بل علينا أن نطور للعالم مبادئ جديدة انطلاقاً من مبادئه القديمة.

3- في سياق دراسته لظروف روسيا القيصرية، خرج لينين عن الاستنتاجات الرئيسية لرؤية ماركس وأنغلز، واجتهد وطوّر ما عرف فيما بعد (قانون النمو غير المتساوي للرأسمالية)، ثم استند إليه في التحضير لثورة أكتوبر عام 1917.

4- في لقائه مع الشيوعيين الهنود بزعامة (راو) قال لينين منبهاً:

انتبهوا، ليس من الضروري أن تواجهوا الظروف التي واجهناها في روسيا، لدينا ظروف روسية (محضة).. لقد ضيقنا على البرجوازية والأحزاب، أنتم لستم مجبرين على ذلك.

هل تأكدنا أن هذه الإيديولوجيا، التي شاخت بعض نصوصها وليس منهجها، تحولت إلى مذهب؟

لو تحولت هذه الإيديولوجيا، التي أعتقد أنها ليست (جامدة) بل تغتني كل يوم – كما الحياة – بكل ما هو جديد، ولا تتصف بالثبات، في ظل ما ذكرناه، لو تحوّلت إلى مذهب، هل كانت ستتراكم الأخطاء والخروقات والخيانات والقبض على السلطة، والأهم من ذلك كله هل كانت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى مجرد ذكرى لمجموعة من دعاة العدالة الرومانسيين؟

لو تحولت الإيديولوجيا إلى مذهب، هل كان 23 مليون عضو في الحزب، ونحو 25 مليون كومسومولي، وعدد مماثل من النقابيين في الاتحاد السوفييتي، هل كانوا سيكتفون بمتابعة أحداث الانهيار الكبير على شاشات التلفزيون في بيوتهم؟!

لو تحوّل جوهر الماركسية الذي يفترض إخضاعها للتطوير والمراجعة، إلى مذهب، لما اشتكى صديقنا صريح من (الثبات على المبدأ)، ولما طالبَنا (بالتوصل إلى استنتاجات واقعية لا تجيب على أسئلة الحاضر بمفاهيم الماضي المقدسة).

ويبدو أننا وضعنا هذه الإيديولوجيا وراء ظهورنا، ولم نحوّلها إلى مذهب. فلا مبرر لمخاوفك يا صديقي!

قد تسفر وقائع الحياة مستقبلاً عن ظروف تسمح بتكوين أنظمة سياسية أكثر عدلاً، لكنني وبعد متابعتي في عام 1995 لمؤتمر عالمي نظمه مركز (غورباتشوف) في سان فرنسيسكو، وحضره(كبار) العالم، أصبح المستقبل بالنسبة لي أكثر سواداً.

لقد أجمع الحاضرون وهم رؤساء سابقون.. ووزراء.. وأصحاب الشركات الكبيرة في أمريكا وأوربا، على أن القرن القادم(الحادي والعشرين) هو قرن الخُمس الثريّ، أما الأربعة أخماس الباقون، فعليهم أن يعانوا. إنه قرن القطع الكبيرة صديقي صريح، لذلك لا أستبعد أبداً احتدام الصراع الاجتماعي أكثر فأكثر، وهذا ما يفرض على الشيوعيين وقوى اليسار أن يكونوا في الطليعة.

أعود إلى المثال الذي أوردتَه عن فيتنام وعدم خشيتها من أخذها من الداخل، تعليقاً على ما كتبتُه في مقالاتي الاقتصادية والسياسية على صفحات (النور).

أعتقد أنك لم تكن موفّقاً في هذه المقارنة، يا صديقي صريح.

هل تساوى الاهتمام الأمريكي بفيتنام، التي كانت همّاً وسكيناً في خاصرة الأمريكيين إلى حين خروجهم منها، باهتمام الأمريكيين بمنطقة الشرق الأوسط التي تضم حلفاءهم الصهاينة، وآل سعود، وحكام الخليج الآخرين، وتركيا، والنفط، والغاز، وأخيراً سورية التي لم توقع اتفاق إذعان مع الكيان الصهيوني، ولم تتنازل عن شبر من أراضيها، وتحالفت تكتيكياً، وربما بعد ذلك استراتيجياً – بغض النظر عن صحة هذا التحالف أو خطئه – مع إيران وحزب الله اللذين رفعا علناً راية العداء لأمريكا والصهيونية؟ المقارنة – حسب اعتقادي- غير موفقة، علماً أن فييتنام وضعت قيوداً عديدة على تدفق الرساميل الأجنبية، ومارست رقابة محكمة على المصارف الخاصة والأجنبية، مما خفّف من النتائج الكارثية التي عصفت بنمور آسيا إبان الانهيار الشهير.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وفي غواتيمالا والبيرو والبرازيل، وفيما بعد في تشيلي، واليوم في فنزويلا، خافوا ويخافون من أخذهم من الداخل، ويخشون مصادرة قرارهم السيادي عن طريق الاقتصاد، ولا أدلُّ على محورية دور الاقتصاد إلاّ ما ذكره الصديق صريح في مقالته ذاتها، حين كتب (ربما كانت الأزمات لصيقة بطبيعة الاقتصاد، ولكن الأمل يكبر بأن هذه الأزمات قد لا تجرّ العالم إلى حروب عالمية، فتدمر مكان الحياة الوحيد المعروف حتى الآن). أليس هذا اعترافاً بأن الاقتصاد قد يتسبب بتدمير مكان حياة البشرية بأسرها؟! هل بعد ذلك نُلام إذا عظّمنا من العامل الاقتصادي من بين حزمة العوامل الداخلية والخارجية المسببة لأزمتنا الكارثية؟

لم ننطلق في مواقفنا تجاه السياسات الاقتصادية ما قبل الأزمة استناداً إلى رؤية إيديولوجية بحتة، بل من مبررات ودوافع تتعلق بتنمية الاقتصاد الوطني ذاته، ومن حرصنا على مصلحة القطاعات المنتجة التي أزاحها الانفتاح غير المدروس، وخاصة على(الصديق) التركي والسوق الصيني.

ولو كان الراحل الدكتور داود حيدو حيّاً، لروى لك يا صديقي ما قاله رئيس غرفة الصناعة، عندما استقبلنا على مدخل صالة المؤتمر الثاني للصناعيين السوريين:  (يا ريت كل القوى السياسية بتعمل متلكم.. وتدافع عن الصناعة.. والصناعيين السوريين)!! كل ما في الأمر أننا وقفنا ضد (تجيير) دور الحكومة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المتوازنة، إلى القطاع الخاص، وطالبنا بشراكة حقيقية بين العام والخاص دون هيمنة ولا تفرّد ولا ابتلاع، وأن تجري هذه العملية بقيادة الدولة، وذلك لسبب واضح، هو سعي القطاع الخاص إلى حساب العوائد والأرباح قبل سعيه إلى التنمية المنشودة، التي هي ليست من مهامه أصلاً.

من هنا انطلقت مواقفنا في معارضة السياسات النيوليبرالية المتأثرة بنصائح الصناديق الدولية.. ففي الوقت الذي لجأت فيه الدول الرأسمالية إلى إعادة تدخلها في الحياة الاقتصادية، بعد الأزمة الكبرى في خريف ،2008 كان مدبرو اقتصادنا الوطني (المقاوم) يقلّصون تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية، ويجمدون أدواتها المالية والرقابية والقانونية، ويطلقون العنان لرأسمال طفيلي راح يتاجر بالأراضي والعقارات ومشاريع النخب!

لسنا مع الانغلاق، أعلنّاها أكثر من مرة على صفحات (النور) وفي حلقات النقاش التي عقدت في جمعية العلوم الاقتصادية، ويذكر الرفيقان حنين نمر وفؤاد اللحام جيداً ما قاله أحد ممثلي القطاع الخاص المعروفين، تعليقاً على ما عرضته في جلسة حوارية نظمتها جمعية العلوم الاقتصادية، حول رؤيتنا للمسألة الاقتصادية في البلاد، إذ التفت إلى الرفيق حنين وقال: هل تقبلون طلب انتسابي إلى حزبكم؟

وأورد هذه الواقعة لأدلل لا على مسايرتنا (كما يظن البعض) للرساميل والتجار وأثرياء (الغفلة)، بل لأشير إلى انفتاحنا على كل ما يخدم القطاعات المنتجة ويطور اقتصادنا الوطني، فهو ركن التنمية الرئيسي الذي سيسهم في التنمية الاجتماعية الشاملة، لكننا لم نتهاون في معارضة جميع السياسات التي آلمت الصناعة والزراعة، وانعكست على الأوضاع الاجتماعية زيادة في نسبة العاطلين على العمل، وتوسعاً في بؤر الفقر، وإغلاقاً للمصانع، وتشريداً للعمال.. وهذه ليست رؤية إيديولوجية بحتة، صديقي صريح!

للأزمة أسباب أخرى! صحيح.. وهذا ما أعلنه الحزب الشيوعي السوري الموحد، وكتبته (النور)، فهي أزمة مركبة، فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الداخل، وفيها محاولات التدخل (الأمريكي خاصة) والأوربي عامة من الخارج، وفيها تصفية الحسابات القديمة، وفيها أثرياء الحروب الذين لا يتورعون عن مساندة القوى المعرقلة لأي تسوية سياسية سعياً إلى تكديس المليارات.

أما عن مقالة هادي العلوي التي (كبر همّ) صديقي صريح بعد نشرها في (النور)، فهي كغيرها من المقالات التي تعبر عن آراء أصحابها ولا تمثل بالضرورة رأي (النور)، كمقالتك، وهذا حسب اعتقادي أحد أسباب حماس الكثيرين لجريدتنا، وأنت أحدهم.

لا نعلّق على شماعة (الإمبريالية)، بل ننطلق في مواقفنا السياسية والاقتصادية في (النور) من رؤيتنا إلى مجمل الأحداث، ونراقب سياسات الأمريكيين ومحاولاتهم عرقلة أي جهد دولي لتسوية سياسية لأزمتنا الكارثية، وهذا لا يعني تبرئة سياسات أخرى في الداخل والخارج، تتساوى مع الجهد الأمريكي، لإطالة أمد الحرب السورية، وتأخير حل أزمة السوريين التي تحولت إلى كارثة إنسانية.

أخيراً، وأنا هنا لا أجامل أبداً، لقد سعدنا في (النور) بنشر مساهمتك أيها الصديق، وكم نتمنى أن تستمر في الكتابة إلينا في أي شأن وطني، وأرجو أن تعذرني ويعذرني القراء أيضاً إذا اشتمّوا رائحة (النزق) من بين سطور مقالتي، فهو غير مقصود، وسببه خارج عن موضوع المقالة.

للعلم.. لقد تبيّن أن حديث البابا عن الجنة والنار مختلق، ونفاه الفاتيكان..

مع تقديري البالغ للصديق صريح البني، ولجميع من يساهم في إغناء الحوار على صفحات جريدة (النور)!.

العدد 1105 - 01/5/2024