الإيديولوجيا ليست عقيدة جامدة

 لقد كانت جريدة (النور) وما زالت تعنى بالقضايا الفكرية، وهي تنشر بين فترة وأخرى مقالات تتعلق بالفلسفة الماركسية- اللينينية، ضمن مقولة أنها تعبر عن رأي كاتبها، واحترام الرأي والرأي الآخر، ولكل فرد حرية الرد على المقالات المنشورة، انطلاقاً من أن الجريدة تصدر عن الحزب الشيوعي السوري الموحد وليست ناطقة بلسان الحزب. علماً أن بعض هذه المقالات تشكل انحرافاً فكرياً واضحاً وتخلياً عن أهم المبادئ لهذه الفلسفة، وفي طليعتها القضية الطبقية، وتطالب أيضاً بالتحلي بالجرأة للتخلي عنها.

 وفي هذا السياق نشرت جريدة (النور) في أعدادها (707 708 709 ) عدة مقالات للكاتب صريح البني، لفت انتباهي فيها عدد من الأفكار ألخّصها فيما يلي:

 – إلغاء الوظيفة الطبقية للدولة.

 – إن فكرة العدو الثابت المستندة إلى إيديولوجيا وعقائد معينة، هي فكرة ضارة وعقيمة.

 – الدولة لا تحتاج إلى هوية دينية، بل هي لا تحتاج إلى هوية قومية أو طبقية لكي تتطور اجتماعيا

 أو سياسياً.

 – هل نحن تقدميون، عندما نجيب عن أسئلة الحاضر بمفاهيم الماضي المقدس؟

 – انتقاد بعض المحررين الاقتصاديين في الجريدة لمبالغتهم في دور العامل الطبقي الخارجي

 والداخلي خلال تفسير أسباب الأزمة.

 – إن الاستمرار في اعتماد الصراع الطبقي محركاً للتاريخ…. يحتاج إلى التأكّد من استمرار

 صلاحيته.

 – ربما يكون الجمود وثبات المفاهيم وأدوات البحث والتحليل ورسم السياسات، أحد أسباب

 ضعف اليسار وترهّله.

 – التحلّي بجرأة البابا فرنسيس، الذي أبلغ أتباعه: ليس هناك نار… ليس هناك جنة!

 إن العديد من هذه الأفكار وخاصة ما يتعلق منها بالأزمة، قد جرى مناقشتها بشكل واسع عبر صفحات الجريدة، في المقالات الاقتصادية والاجتماعية، والوثائق المختلفة. لذلك سوف أركز في مقالتي هذه على القضية الطبقية والصراع الطبقي، وتحويل الإيديولوجيا إلى مذهب، نظراً لكون المحور الأساسي لهذه الأفكار هو: المطالبة بإلغاء الوظيفة والهوية الطبقية للدولة، وإعادة النظر بصلاحية مفهوم الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، واتهام اليسار بالضعف نتيجة تحويله الإيديولوجيا إلى مذهب.

الطبقات والصراع الطبقي

 لقد أوضحت الماركسية أن ظهور الطبقات وتكوّنها حدث لأول مرة في عصر انحلال نظام المشاعية البدائية، وارتبط ظهورها بمدى تطور القوى المنتجة، إذ نشأت الظروف الملائمة لإمكانية تراكم الثروات المادية وامتلاك وسائل الإنتاج، فظهرت الملكية الخاصة التي ساعد ظهورها على تقسيم العمل وتنامي التجارة. وبتطور الملكية الخاصة، تزايد التفاوت الاقتصادي بين الناس، وانتهت هذه العملية بظهور الطبقات المتعارضة والاستغلال.

 إن انقسام المجتمع إلى طبقات معناه وجود طبقتين رئيسيتين في المجتمع من حيث علاقتهما بأسلوب الإنتاج الاجتماعي السائد في مجتمع ما: طبقة تقوم بالإنتاج، وأطلق عليها مصطلح القوى المنتجة، وطبقة تستولي على الإنتاج وتوزِّعه وفقاً لمصالحها وليس لمصلحة المجتمع، وتدعى طبقة مالكي وسائل الإنتاج، وأطلق ماركس على العلاقة بينهما مصطلح علاقات الإنتاج. طبقتان في المجتمع متلازمتان لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، ولا وجود لإحداهما من دون الأخرى، ولكنهما طبقتان تختلفان اختلافا تاماً في مصالحهما وعلاقتهما بالإنتاج الاجتماعي. لذلك فإن المجتمع العبودي، يتكون من طبقتين رئيسيتين هما: ملاكو العبيد، والعبيد. والمجتمع الإقطاعي، يتكون من الإقطاعيين والأقنان، وفي المجتمع الرأسمالي تظهر الطبقة الرأسمالية، والطبقة العاملة، طبقتين رئيسيتين. أما ما يخص الفئات الأخرى في تلك المجتمعات المتناحرة، فهي مرتبطة مباشرة بأسلوب الإنتاج السائد، وبالتالي ليس لها خطها الخاص، إنما تقف إلى جانب إحدى الطبقتين.

 ولكي يستطيع مالكو وسائل الإنتاج الإبقاء على سيطرتهم واستغلالهم للقوى المنتجة، كان عليهم أن يجدوا الأدوات اللازمة لذلك. فكان نشوء الدولة إحدى هذه الوسائل وأهمها. فالدولة في الظاهر تقوم بتنظيم الإنتاج الاجتماعي، ولكن هدفها الرئيس كان المحافظة على سيطرة الأسياد على العبيد، ومهمتها دكتاتورية موجهة ضد العبيد ضماناً للديمقراطية التي يتمتع بها أسياد العبيد في استغلال عبيدهم في المجتمع العبودي. وفي المجتمع الإقطاعي كانت الدولة في الأساس أيضاً دكتاتورية مهمتها الأساسيةً إبقاء الفلاحين تحت سيطرة الإقطاعيين والمحافظة على الاستغلال، باستلاب الجزء الأكبر من إنتاج الفلاحين والأقنان، وتحولت في المرحلة الرأسمالية إلى دكتاتورية رأسمالية، مهمتها الرئيسية المحافظة على السلطة الرأسمالية ضد الطبقة العاملة والكادحين.

 إذاً، الدولة أداة في يد طبقة تضطهد بها طبقةً أخرى، وإن هوية الدولة الطبقية تحددها طبيعة ملكية وسائل الإنتاج، والطبقة الحاكمة هي التي تحدد شكل العلاقة بين هذه الطبقات من ناحية القوانين والتشريعات والحريات.

 يعد الصراع الطبقي المحور الأساسي في الفلسفة الماركسية والفكر الاشتراكي، وتعود نشأته بجذورها التاريخية إلى ظهور الملكية الخاصة، حين انقسم المجتمع إلى طبقات. تقوم فكرة هذا الصراع، على أن التاريخ عبارة عن صراع اقتصادي بين طبقات متناحرة، إحداها تستغل الأخرى، كما جاء في البيان الشيوعي:(إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا..)_ثم أضاف أنجلس فيما بعد(ماعدا المشاعية البدائية)_ لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات، فالحرّ، والنبيل، والعامي، والسيد الإقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم وكانت بينهم حرب مستمرة، تارة ظاهرة، وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، وإما بانهيار الطبقتين معاً. أما المجتمع البرجوازي الحديث، الذي خرج من أحشاء المجتمع الإقطاعي الهالك، فانه لم يقضِ على التناقضات بين الطبقات، بل أقام طبقات جديدة محلّ القديمة، وأوجد ظروفاً جديدة للاضطهاد وأشكالاً جديدة للنضال بدلاً من القديمة. إلا أن ما يميز عصرنا الحاضر، عصر البرجوازية، هو أنه جعل الصراع الطبقي أكثر بساطة. فالمجتمع أخذ بالانقسام، أكثر فأكثر، إلى معسكرين فسيحين متعارضين، إلى طبقتين كبيرتين، العداء بينهما مباشر: هما البرجوازية، والبروليتاريا).

 يرى ماركس أن الصراع الطبقي، الذي تعد أطرافه طبقتين أساسيتين، هما: طبقة مالكة لوسائل الإنتاج والثروة ومهيمنة على السلطة، وطبقة فاقدة لها، وتعامل كإحدى وسائل الإنتاج. وبالتالي فإن هذا الصراع بين قوى الإنتاج المتمثلة في الأراضي، مناجم، غابات، وأدوات الإنتاج المتمثلة في عمليات الإنتاج والروابط الاجتماعية، وينتهي هذا الصراع بهيمنة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج. ونتيجة لهذا الصراع ينتقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى، بظهور نظام جديد يحمل أيضاً بذور فنائه وهو الصراع الطبقي. هذا الصراع هو الذي يصنع التاريخ، من خلال التطور التاريخي الذي خضعت له المجتمعات بواسطة الصراع الطبقي، ونهايته تؤدي إلى ظهور مجتمع جديد يحمل معه الصراع، الذي يتشكل ويتجدد مع الصيرورة التاريخية للمجتمع. لذلك فالصراع الطبقي، هو ظاهرة حتمية وضرورية إلى درجة، يمكن اعتباره قانوناً طبيعياً كسائر القوانين الطبيعية التي تتحكم في سير المجتمع وتطوره.

 يجري الصراع الطبقي في الزمن الراهن في ظروف جديدة من المرحلة التي وصلت إليها الأزمة العالمية للرأسمالية، ولاسيما في مرحلة نظام العولمة، فقد تعمقت الأزمة العالمية مع اتساع مساحة الاستغلال على الصعيد العالمي خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، إذ برز تسلط رأس المال الخاضع لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وما يؤكد هذه الأزمة هو تعمق التناقض الأساسي على الساحة العالمية، ويتمثل هذا التناقض بشكل مواجهة بين الاحتكارات الاقتصادية العالمية التي يهيمن عليها الرأسمال المالي المعولم والشركات المتعددة الجنسيات، من جهة، وجماهير الطبقات والفئات الاجتماعية المستغَلة في العالم، من جهة ثانية، علماً أن هذا التناقض هو انعكاس للصراع الطبقي التاريخي بين العمل والرأسمال.

 فيما يخص الصراع الطبقي في سورية، فقد أدت السياسات الاقتصادية، التي مارستها الحكومات المتعاقبة قبل الأزمة الحالية وخلالها، وبشكل خاص ما يتعلق باستمرار اتباعها النهج الليبرالي الجديد، إلى ظهور نهجين متعارضين بشأن معظم القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يتصدى لها مجتمعنا. يقف في النهج الأول: كبار الرأسماليين الجدد والسماسرة ووكلاء الاحتكارات، ومحتكرو أهم المواد، والطامعون بالسيطرة على المؤسسات والمرافق الحكومية، والبرجوازية البيروقراطية، وقد سيطر هؤلاء على العديد من الأنشطة والفعاليات الاقتصادية والخدمية، مما أدى إلى إضعاف دور الدولة، والقطاع العام، وإلى غزو للعلاقات الرأسمالية لمعظم المواقع الاقتصادية، وتمركز الرأسمال. وفي النهج الثاني تقف الأغلبية الساحقة من العمال، والفلاحين، والمثقفين، والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة، التي تردت أوضاعها المعيشية. لذلك فان الصراع الطبقي يدور بين هذين النهجين المتضادين.

الفلسفة الماركسية ــ اللينينية (الإيديولوجيا)

يواجه الفكر الماركسي-اللينيني هجوماً فكرياً شرساً، من قبل أصحاب الفكر الإيديولوجي البرجوازي، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، يتلخص في البرهان على ثبات الملكية الخاصة، وخلودها، لوسائل الإنتاج وأدواته ، وصرف الجماهير عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحادة، وتهميش الفكر الماركسي-اللينيني، وتزويره، وإقصائه، ونقضه،(وعلى وجه الخصوص كتاب رأس المال )، إضافة إلى نشر مفاهيم التدين الزائف ودعمها، وتسييس الدين. لذلك نجد في الغرب من يدّعي بنهاية الصراع الطبقي، ونهاية الصراع الإيديولوجي. وتنفق الرأسمالية الإمبريالية أموالاً طائلة على وسائل الدعاية الجماهيرية، التي تسيطر عليها، بهدف نشر هذه المفاهيم المحمومة، إضافة إلى نشاط العديد من الهيئات الحكومية المرتبطة بالمساعدات الأمريكية.

 مرت الإيديولوجيا خلال العشرين عاماً المنصرمة بامتحانين جدّيين، واستطاعت الإجابة عن أسئلة الحاضر. وأثبتت أنها ما تزال الأكثر قدرة على قراءة الواقع، وتحديد مشكلاته والبحث عن حلول لها، تخدم مصلحة الشعوب في التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية.

 لقد أكدت معظم الأحزاب الشيوعية، أن انهيار النظام الاشتراكي في بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يكن_ كما يزعم الآخرون_ انهياراً للفكر الاشتراكي، ولا يعني انتصاراً للرأسمالية ومفاسدها وعدوانيتها. فما دام هناك فقراء ومضطهدون، فستولد الحركات الثورية، التي تعكس همومهم وتطلعاتهم، وسيلتفّون حولها ويساندونها. وقد استندت في استنتاجها هذا، إلى المرجعية الماركسية-اللينينية، وبصورة خاصة إلى نهجها المادي الجدلي التاريخي، مع فهم وتحليل معمّق للنصوص، وركزت على ضرورة تحليل الواقع في كل بلد، ورؤية الظواهر التي لم تكن موجودة في زمن ماركس ولينين، واستنباط الحلول لكل بلد بشكل ملموس وبأفق ماركسي، مسترشدة بالتجربة اللينينية، وبتجارب الأحزاب الشيوعية، وبضمنها التجربة الصينية وغيرها من الثقافات التقدمية، التي تعاقبت على حياة الشعوب.  كما أكدت الأزمة الاقتصادية العالمية في عام ،2008 صحّة توقعات ماركس حول التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، والشكل الفردي للتملك، وأن هذا التناقض سيؤدي إلى مزيد من الأزمات الدورية، التي سيتعرض لها النظام الرأسمالي العالمي، والتي تؤدي إلى إضعاف هياكله، بالرغم من معالجتها بأساليب أكثر انحيازاً للأغنياء واستبعاداً للفقراء وتجاهلاً للجانب الاجتماعي الإنساني. علماً أن معظم الاقتصاديين الغربيين، نصحو بالعودة إلى مؤلفات ماركس، للدراسة والتحليل ووضع الحلول لهذه الأزمة.

 بالنسبة للتجديد في الفكر الماركسي-اللينيني، فمن المعروف أنه يتجدد مع التحولات والتطورات الاجتماعية، وعبر صراعه مع التيارات المعادية، ويتحقق عبر اجتهادات بناءة وحوارات فكرية منفتحة، تقوم بها الأحزاب الشيوعية، تركز فيها على التنوير ورفع الوعي الاجتماعي والسياسي والنضالي، والدفاع عن الوطن ومصالح الجماهير الكادحة، وهذا يتطلب إرادة وتنظيماً طبقيّين وجهوداً دائمة مترافقة مع العمل الفكري والنظري، ليساهم الفكر في قيادة النضال، ويغدو قوة مادية فاعلة للتغيير الاجتماعي.

إن أسباب ضعف اليسار ليست في جمود الإيديولوجيا، وإنما في ضعف بنية الأحزاب الشيوعية واليسارية والعلمانية، وتراجع زخمها الكفاحي، خاصة بعد انتكاس المشروع الاشتراكي وصعود الليبرالية الاقتصادية الجديدة. إضافة إلى عوامل أخرى: افتقار بعضها للديمقراطية والتجديد في داخلها، وضعف التنسيق والتحالف فيما بينها، وفقدان الحريات الديمقراطية في بعض البلدان.

 على الرغم من أن اليسار أستطاع أن يستوعب انهيار النموذج الاشتراكي، فأعادت معظم أحزابه تنظيم صفوفها وعادت إلى بناء علاقاتها فيما بينها، إلا أنه ما يزال أمامه الكثير مما يجب عمله، لكي يستعيد حيويته ووجوده في ساحة النضال على المستويين الوطني والعالمي. وهذا يتطلب وجود يسار قوي يواجه حالة التوحش، التي فرضتها الرأسمالية الامبريالية، ويفرض على الماركسيين بصورة خاصة، طرح برنامج عمل واقعي تتمثل فيه أفكار ماركس ومنهجه كأحد ركائز هذا البرنامج، وبما يتوافق مع معطيات الواقع ومهامه المطروحة، بحيث يعبر عن غايته بإحداث تغيير جذري في نمط علاقات الإنتاج، ويؤسس لفكر علمي وعلماني، وبناء الدولة العصرية، والديمقراطية لكل المواطنين، ويلغي القهر والاستغلال. ونعتقد أن البحث الجاد والحوار الهادف بينهم، لابد أن يقود إلى مشروع نهضوي لمواجهة المخططات السياسية والاقتصادية للإمبريالية الأمريكية.

 إن الفلسفة الماركسية-اللينينية مرجعية فكرية للأحزاب الشيوعية ومرشد للعمل، وإن جوهر هذا الفكر: فكر علمي نقدي تحليلي، ينطلق من دراسة الواقع بحدود زمانه ومكانه، وفق منهجه المادي الجدلي التاريخي، ويهدف إلى تغيير هذا الواقع نحو الأفضل والأرقى. وأهم ما يميزه قدرته على التجدد والتطور بناء على معطيات الواقع وتطور العلوم، إضافة إلى كونه علماً يتضمن معارف قيّمة تتناول المجتمع بمنهج علمي. وليس كما يصفه البعض بأنه عقيدة جامدة تُحفظ وتردّد نصوصها وشعاراتها، أو تحوله إلى إيمان، ومن ثم إلى مذهب.

العدد 1105 - 01/5/2024