هل يوجد فعلاً «تنوير عربي» ؟!

على مدى عقود زمنية عديدة، تعرضت الثقافة العربية لصدمات قاسية متتالية، فبعد محاولات كثيرة لـ(تبيئة) الفكر الغربي، و(تعريبه) أو حتى (أسلمته)، وتبني كثير من فلسفاته ومدارسه واتجاهاته الغامضة المتناقضة، واللهاث وراء أطروحاته ومصطلحاته الخاصة، والفشل الهائل الذي لحق بهذه التيارات كافة أو بمعظمها على الأقل، ما انفكّ عدد من المثقفين العرب، ولا سيما من دعاة ما يسمى(العقلانية الليبرالية) يرددون المقولات والشعارات نفسها، التي رفعها أساتذتهم الغربيون في القرن الثامن عشر، باسم (الأنوار) و(التنوير) و(إصلاح العقل) أو(نقد العقل) وغير ذلك.

 والغريب أنه رغم كل هذه الخيبات والصدمات والنكسات الفكرية والأيديولوجية، والفضائح الهائلة لأطروحات (الليبراليين الجدد) وممارساتهم، في أوربا والغرب عامة، وتلامذتهم المحليين، وخاصة لجهة علاقتهم المباشرة بعواصم الاستعمار العالمي، والصهيونية العنصرية الغاصبة، والرجعية العربية الأكثر تخلفاً في العالم.. ما يزال بعض المثقفين والكتاب العرب يبني آماله الزائفة على إمكانية نشوء تيار (تنويري) عربي يستلهم المسارات التي اختطّها(التنويريون الكبار) في الغرب على مدى ثلاثة قرون، بصرف النظر عن الفارق الكبير جداً في البنى الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية – التقنية- الحضارية القائمة بين المنطقتين، والتي تقاس بمئات السنين.

 من هنا يتوهم هؤلاء بتكرار تجارب(الآباء الأوائل لعصر الأنوار الأوربي)، التي من شأنها أن (تقدم للمثقف العربي في هذه الظروف المدلهمة عزاء ما بعده عزاء. فهي تثبت له أن خوض المعركة من أجل تنوير العقول ممكن، وأن النجاح فيها ممكن أيضاً. وبالتالي فالرؤية الجديدة للدين والعالم، أو العلاقة بين الدين والمجتمع، أو بين الدين والسياسة، يمكن أن تنتصر على الرؤية القديمة حتى ولو كانت راسخة الجذور في العقلية الجماعية منذ مئات السنين- هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي. بيروت: دار الطليعة، ،2005 ص 10).

 في هذا السياق يرى عدد من الباحثين أن ما يسمى(التنوير العربي) صدر أساساً عن لقاء تعسفي بين طرفين، جعل المنتصر منهما (الفكر الغربي) يملي على المهزوم (الفكر العربي) أسئلته، ويجبره على التعامل مع قضايا وإشكالات غير معني بها أصلاً. ولأن العقل لا يجيب إلا على أسئلة اختارها طليقاً، وقع التنوير (بنسخته المحلية) على إجابات تعسفية، تتفق مع (صدمته) أكثر مما تلائم شرطه التاريخي. لهذا ولد(التنوير العربي) وتطور داخل إعاقة موضوعية، وجابه الفكر التنويري (العربي -الإسلامي) تحدياته المختلفة معوّقاً. لكن لا تشير الإعاقة الداخلية، بهذا المعنى، إلى قصور عقلي ذاتي، بل إلى فوات مجتمعي تاريخي، أوكل إلى (عقل عثماني) التعامل مع قضايا حديثة.

لن تكون صفات التلفيق والتبعية، التي ينسبها البعض إلى الفكر التنويري، إلا صفات ظاهرية، يقوم جوهرها في (التاريخ المفوّت)، الذي ينتج العقول وينتج فيها الإجابات والأسئلة(…لقد أملت الإعاقة التاريخية على التنوير أن ينوس بين زمن قديم متخيل وزمن قادم لا يقل تخيلاً- فيصل درّاج). ومن يتأمل المصطلحات المتعددة التي أخذ بها التنويريون العرب، بدءاً من القرن التاسع عشر، سيجد أنها تعكس إعاقة داخلية واضحة، ظهرت مترافقة مع مناقشات وسجالات حامية، حول (التمدن) البديل عن (سوء الحال- الطهطاوي)، أو النقيض لـ(التوعر والتوحش- بطرس البستاني وفرنسيس مراش)، و(الجديد، في مواجهة القديم- طه حسين ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق)، إضافة إلى دعوات صريحة للأخذ بنظرية (التطور والارتقاء)، التي سار خلفها (أنصار داروين)، مثل سلامة موسى، وشبلي شميل وإسماعيل مظهر.

 غير أنه بصرف النظر عن المصطلحات العديدة المختلفة، التي حفلت بها كتابات هؤلاء المتنورين العرب، فإنها جسّدت ثراء أفكارهم من جهة، وتعبيرها عن إشكالات موضوعية داخلية من جهة أخرى. ويكفي القول في هذا الشأن أنهم أجمعوا كلهم على التحذير الشديد من (سوء الحال) وطالبوا بالخروج منه إلى (مملكة التمدن والحرية) بدلاً من (مملكة التوحش والعبودية).

ولم يتوان الكواكبي مثلاً عن إصدار مؤلف مميز حول(الاستبداد) وأسبابه، وكيفية التخلص منه، ورفض علي عبد الرازق مسألة (طاعة الأئمة) في ما يتصل بطرائق الحكم وإدارة شؤون الأمة، وغير ذلك من استخدام لتعابير ومصطلحات تشير بوضوح وجلاء إلى ما تعانيه مجتمعاتنا من(انحطاط، وهوان، وتوحش، وعبودية، وظلمة، وظلام، وجمود، وتحجّر).. إلخ.

 لكن بالرغم من ذلك كله، فإن أفكار (التنويريين) أو (النهضويين) العرب كانت صيحات فردية منعزلة، ومقولات تبشيرية، أقرب إلى المواعظ الدينية، إذ يجري التركيز على المثل والقيم والأخلاق السامية المطلوبة، بصرف النظر عن الواقع الاجتماعي-الاقتصادي الفاسد. ولهذا تتحدث (العروة الوثقى) بشأن(تطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرية، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح.. المبرأة عن محدثات البدع)، فطغت (البلاغة الفقهية) على غيرها من المعاني والدلالات، دون اكتراث بالفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والسياسة، ودون تأمل ودراسة لدور العلم والتقنية في تحول المجتمعات الإنسانية. والنتيجة التي آلت إليها معظم هذه الكتابات الإنشائية البلاغية هي أن الدين هو(علم العلوم)، واللغة العربية (الأقرب إلى القدسية الإلهية) هي الأداة الضرورية التي يحتاجها هذا العلم، بما يختصر علوم المسلمين إلى علم أصلي وعلم ثانوي، ويرمي بما عداهما إلى حيز (البدع) الدخيلة و(العلوم المارقة).

 وفي مقابل هذه الرؤية السلبية (للتنوير العربي) توجد توصيفات إيجابية، لا تنفي أو تتجاهل الدور الذي قام به التنويريون والنهضويون العرب خلال القرنين الماضيين في مناخات ثقافية- فكرية ودينية واجتماعية شديدة الصعوبة والتعقيد والقسوة. ولا بد من أن نستذكر بهذا الشأن محاكمة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق على كتابه (الإسلام وأصول الحكم/ 1924) من قبل (جماعة كبار العلماء) في الأزهر، وما قيل حول تراجعه عن أفكاره وأطروحاته المركزية في هذا الكتاب بعد (إدانته) وإخراجه من زمرة العلماء في 12 آب(أغسطس) سنة 1925 ( د. محمد عمارة ،الإسلام بين التنوير والتزوير، ط2 : دار الشروق، ،2002 ص59).

كما يشار في هذا المجال أيضاً إلى سلسلة من (التنازلات الفكرية) الكبيرة، التي جرت تحت وطأة الضغط الكثيف الذي تعرضت له العقلانية- التنويرية من تيارات فكرية شتى، وخاصة من جانب التيار الديني- الشعبوي، الذي لم يتوقف عن النظر إليها بوصفها تغريباً يهدد هوية الوعي العربي (الإسلامية). والمثال الأبرز لتلك التنازلات هو طه حسين وعباس محمود العقاد، اللذان كانا لسان العقلانية الليبرالية، والتنويرية الثقافية وسلطتها (في مصر) التي لا تعدلها سلطة فكرية أخرى (كما يقول عبد الإله بلقزيز).

 وبرأي الباحث والأستاذ الجامعي التونسي الطاهر لبيب، فإننا، يمكن أن نسمي الفكر الإصلاحي والنهضوي كما شئنا، لكن لا يمكن أن نسميه تنويرياً، باعتبار فلسفة الأنوار والحركة التنويرية الأوربية مرجعاً له. أما أن يسمى تنويرياً بمعان أخرى، لا نعرفها، فهذه مسألة أخرى (تعقيبه على ورقة علي أومليل (في معنى التنوير) ضمن بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في عام 2004 بعنوان (حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر).

 ويشبه هذا الرأي الانتقادي الجذري قول المفكر المصري الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد : إن (لدينا دعاة تنوير وليس صنّاع تنوير، فهناك فرق بين أن تدعو للتنوير، وتقول : يحيا التنوير، يحيا قاسم أمين، يحيا محمد عبده، يعيش نصر أبو زيد.. فرق كبير جداً أن تفعل ذلك وتتحول إلى مردد هتافات وشعارات، وبين أن تصنع تنويراً يشمل كل جوانب المجتمع.. فالتنوير صناعة ثقيلة لا تقل عن التصنيع في المجتمع، أنت ليس عندك تصنيع، ولا صناعة، عندك اقتصاد يعتمد على الفهلوة، أنت ليس عندك بنية صناعية اقتصادية، ليس عندك مؤسسات تعمل صناعة إنتاجية في المجتمع، كلها صناعات شيبس وكوكا كولا و..و..و.

 المجتمع التنويري نشأ مع المجتمع التجاري الذي تحول إلى مجتمع صناعي، أنت مجتمع (عمولي) يعتمد على العمولات، أنت لا تؤسس بنية إنتاجية، كلمة إنتاج هنا كلمة مهمة جداً، لأن إنتاج الفكر لا يتم منفصلاً عن الانتاج في مجالات أخرى، ومن هنا الكلمة الرائعة التي يرددها دعاة التنوير طوال الوقت من دون تحليلها: ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركة بيننا نبنيه بالحرية والفكر طوال الوقت، ولا نتحدث عن المصنع، طبعاً الحرية شرط الفكر، الفكر شرط المصنع، وإلا يسقط المصنع- مقابلته مع محمد الحمامصي المنشورة في الموقع الالكتروني لمجلة (معابر)، الإصدار المستمر).

 وبصرف النظر عن الاختلافات والقراءات المتباينة لمسألة وجود (تنوير عربي)، أو عدم وجوده، إلى جانب التيارات (التاريخانية) و(الوضعية) و(الوجودية) و(العدمية) و(العلموية) و(المادية الجدلية والمادية التاريخية) و(الليبرالية) بطبعاتها المختلفة..إلخ، فإننا نستطيع الجزم بكل الأحوال أن العقلانية في تجلياتها العربية (شاملة التنوير) دخلت طور الجمود والانكفاء، وصولاً إلى التراجع والتقهقر منذ نهاية عقد السبعينيات في القرن العشرين، ولم تخرج منه إلى الآن. وقد يمتد تراجعها هذا وتقهقرها إلى فترة طويلة أخرى قادمة، في ضوء وقائع التراجع العام الذي يشهده الخطاب الفكري- الثقافي العربي التقدمي والمستنير تحت وطأة (الاجتياح) الارتكاسي -الرجعي (التكفيري-المتأسلم) لأذهان الغالبية العظمى من الفئات والشرائح المتعلمة في مجتمعاتنا، ومشاعرهم وتصرفاتهم، إذ انهار وعيها و(عقلها الجمعي) إلى درجة الاستسلام شبه التام للخرافات والغيبيات والماورائيات، على خلفية الانتكاسات الحاصلة في الإيديولوجيات والفلسفات الكبرى، والصدمات المروعة والخيبات الهائلة المتصلة (بالإصلاحات) الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية في مجتمعات تعرضت أساساً لإعاقة تاريخية- حضارية قاسية وشاملة لقرون طويلة.

*******

المراجع :

(1) أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث (القاهرة : مكتبة النهضة المصرية، 1965).

(2) هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب: عصر النهضة، 1875-1914 (بيروت: دار النهار للنشر، 1975).

(3) فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979).

(4) علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية (بيروت: دار التنوير، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1985).

(5) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم (تونس : دار الجنوب للنشر، 1996).

(6) حسن حنفي، في فكرنا المعاصر، ط1 (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 1981).

(7) د. محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي (بيروت: دار الوحدة، 1985).

(8) د. محمد عمارة، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق: دراسة ووثائق (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000).

(9) د. محمد عمارة، الإسلام بين التنوير والتزوير ، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2002).

(10) د. محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989).

(11) د. محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996).

(12) د. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997).

(13) د. نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ط2 (مصر: سينا للنشر، 1994).

(14)  د. نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير، ط2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995).

(15) د. محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط1 (بيروت: دار الطليعة، 1998).

(16)  د. محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، ط3 (بيروت: مركز الإنماء القومي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998).

(17) جورج طرابيشي، إشكاليات العقل العربي: نقد نقد العقل العربي (2) (بيروت: دار الساقي ، 1998).

(18) جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2000).

(19) محمود أمين العالم، معارك فكرية (القاهرة: دار الهلال، 1970).

(20) محمود أمين العالم، مفاهيم وقضايا إشكالية (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1989).

(21) محمود أمين العالم، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية (بيروت: دار المستقبل العربي، 1997).

(22)  د. جابر عصفور، التنوير يواجه الإظلام (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).

(23)  د. جابر عصفور، محنة التنوير (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).

(24)  هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، ط1 (بيروت: دار الطليعة ورابطة العقلانيين العرب، 2005).

(25)  د. عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007).

(26) (ندوة): حسن حنفي [وآخرون]، حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005).

العدد 1105 - 01/5/2024