وضرب لنا مثلاً البط والغزلان

 ما كنتُ أعلم أن حسيب كيالي ترجم رواية الكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت إكسوبري (أرض الرجال) إلا حين اكتشفت بمحض المصادفة نسخة منها في مكتبة المركز الثقافي في مدينة إدلب. النسخة من منشورات عويدات في بيروت لبنان، مطبعة قلفاط، الطبعة الأولى_ أيار1963. وقد أذهلني النص الروائي الذي يجمع على جودته خلق كثير، فهو شبه قصيدة ملحمية، تتخللها الأمثال المضروبة للناس. وحين صحوت من ذهولي، أدهشتني تلك الترجمة الأنيقة. وبقدر ما اهتم إكسوبري بنصّه الفرنسي وجد حسيب كيالي معادلاً له: لغة عربية شفافة تمس شغاف القلب، وتترك القارئ في حيرة من أمره، أهو تأليف جديد، أم خلق من عدم، أم قدرة عالية في محاكاة النص الأصلي يُجيدها الأدباء الكبار؟

(1)

حقل الكاتب الفرنسي واسع فسيح يحار المرء من أين يبدأ استكشافه. الرجل من مواليد عام 1900 وفي الحادي والثلاثين من شهر تموز عام 1944 بينما كان عائداً من مهمة قتالية في العام الأخير من الحرب العالمية الثانية أُسقطت طائرته من قبل الطائرات الألمانية المقاتلة قرب شواطئ كورسيكا في الشمال الغربي من البحر الأبيض المتوسط. مات إكسوبري في أوج عطائه الروائي، وكان قد ترك جملة من الروايات الناجحة، لعل من أبرزها روايته الشهيرة (الأمير الصغير) وروايته (أرض الرجال) أو (أرض البشر) التي يرى فيها النقاد الغربيون تحفة أدبية من روائع القرن العشرين، وقد نشرها إكسوبري عام 1939 وسرعان ما نالت الجائزة الأولى للرواية من الأكاديمية الفرنسية.

(2)

كان إكسوبري يعشق عمله طياراً مدنيا في مجال البريد الجوي. يقول في بداية الفصل الرابع من أرض الرجال: الطائرات آلات ولا شك، ولكن أية أدوات تحليل هي؟ هذه الأدوات جعلتنا نستكشف الوجه الحقيقي للأرض والبشر. والواقع أن الطرق قد خدعتنا طوال قرون. وكنا نشبه تلك الملكة التي رغبت في زيارة رعاياها ومعرفة ما إذا كانوا هانئين في ظل حكمها. ولكن حاشيتها، رغبة منهم في خداعها عن الحقيقة، أقاموا على طريقها زينات بديعة واشتروا مؤيدين مأجورين ليرقصوا على طول الطريق ويظهروا الأفراح، فلم تشاهد من مملكتها شيئاً خارج هذا الخيط الهزيل المهيأ، وما علمت قط أن في أرجاء الأرياف العريضة أناساً يموتون من الجوع ويلعنونها.

(3)

الأدب بالنسبة لإكسوبري وسيلة تفكير، والكاتب عنده لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل أيضاً بالتفكير المضني في مغزى الحياة. تلك هي قوة هذا الأديب الفرنسي الفذّ. فعندما نقرأ كلماته يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أغلى سمة من سمات عبقريته، وينبغي علينا أن نتعلمها إذا كان من الممكن تعلم ذلك. فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كل محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. وأكثر من ذلك فهو يسعى كي نكون من أولئك الناس الشاسعين الذين يمدون ظلالهم على آفاق شاسعة. وكونك إنساناً يعني على وجه الدقة أن تكون مسؤولاً. يعني أن تعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بك، أن تزهو بنصر كلّل هامات الرفاق، أن تحس وأنت تضع حجرك أنك تعمّر العالم.

(4)

ها هو ذا يقص علينا محنة صديقه (مرموز) الذي رافقه في حله وترحاله، وأخذ حيزاً مهماً في رواية (أرض الرجال): محاسب صغير في مكان ما من برشلونة يهتم للأرقام أكثر من اهتمامه بالسياسة والانقسامات التي تحدث في وطنه. ولكن أحد رفاقه قد تطوع في جبهة الثوار ضد الطاغية فرانكو؟ ثم رفيق ثان، ثم ثالث، وإذا هو يعاني اندهاشاً وتحولاً غريباً: ظهرت له شواغل جديدة ما كان يلتفت إليها من قبل. وجاء أخيراً خبر مقتل أحد رفاقه في جبهة القتال. لم تكن القضية قضية صديق يود الثأر له. وأما السياسة وأهلها فكانت على هامش حياته. ومع ذلك أحس بغصة؟ ومر هذا النبأ مرور إعصار بحري، ومن هوله مُزّق نسيج شراع سفينة الحياة التي كانت تسير هادئة على صفحة المياه. نظر إليه أحد الرفاق ذات صباح وقال: نذهب إلى الجبهة؟ قال: نذهب. وذهبا.

(5)

حين سمع أنطوان دي سانت إكسوبري قصة صديقه (مرموز) الذي يرافقه في رحلة الطيران لنقل البريد الجوي عبر القارات، وفدت عليه صور لعلها تسهم في تفسير هذه الحقيقة التي لم يعرف كيف ينقلها في كلمات، وإنما بداهتها هي التي هيمنت عليه فراح يقصّ:

عندما تمرُّ أسراب البط البري في موسم الهجرة من موطنها المؤقت إلى تلك المنازل التي لها في القلوب، منازل صحيح أنها مقفرة، ولكن ها هو البط البري يعود إلى تلك المنازل بعد غياب لجعلها عامرة. أقول عنما يمرُّ عائداً إلى منازله في تلك البراري المهجورة القصية يسمع البط الداجن على الأرض، الذي نسي الطيران من دهور مديدة، تلك الجلبة التي هبّت مع وصول تلك الأسراب إلى مسقط رأسها، تنقلب فجأة أحوال البط الداجن. وها هو يسمع ذلك النداء المتوحش الكامن في الأعماق، وإذ بط المزارع قد انقلب خلال دقيقة واحدة إلى طيور حرة؟ تندفع في مظاهرة صاخبة، تفرد جناحيها، وتنطلق في قفزات خرقاء، يحملها شوقها إلى الحرية للمغامرة بمصيرها. هل تريد أن تصبح بطاً برياً حراً يصفق بجناحيه في الهواء الطلق؟ والسؤال: أتستطيع ذلك؟

(6)

وأحس الروائي الفرنسي أن في الكأس بقية فأكمل: أستعيد على الأخص صورة الغزلان التي ربيناها في (جوبي) المحطة الجوية لطائرات البريد على حدود الصحراء الإفريقية. كنا نحتجزها في فناء مكشوف مسيّج لأن الغزلان لا تستطيع الاستغناء عن الهواء الطلق، وليس في الدنيا حيوان أكثر هشاشة ورخاصة من الغزلان. وهذه الغزلان قد أُسرت في حداثة السن، ومع ذلك فإنها تحيا وترعى من يدك. وهي تدع لك أن تُداعبها وتحسب أنك استأنستها. تحسب أنك جعلتها في منجى من الحزن المجهول الذي يطفئ الغزلان من غير جلبة ويجعل موتها لطيفاً هيناً. ولكن لابد أن يأتي اليوم الذي تراها فيه قد ارتكَتْ بقرونها الصغيرة على الحواجز، في اتجاه الصحراء إنها ممغنطة. وهي لا تعلم أنها تهرب منك. والحليب الذي جلبته لها قد شربته. وهي مازالت تدعك تداعبها، وتدفن أفواهها في راحة كفك في عذوبة أشد. ولكن ما إن تفلتها حتى تجدها، بعد قفزات متظاهرة بالسعادة، تعود إلى غرس قرونها في الحاجز. وتظل هناك لا تحاول حتى قراع الحاجز، ولكنها تتركّى عليه وحسب، مطأطئة الرأس، تركي قرونها الصغيرة حتى الموت، تحلم بالحرية المفقودة، إنها تريد أن تصبح غزلاناً ترقص رقصتها الأخيرة. وأنت تنظر إليها وتفكر: ها هي ذي يتملكها الحنين إلى تلك الفيافي

العدد 1105 - 01/5/2024