أفكار قابلة للنشر

عكست الأزمة السورية آثارها السلبية على مجمل الحياة العامة للسوريين، وتناثرت شظاياها على مختلف فئات المجتمع السوري وشرائحه.

بداية، بات من المؤكد ضرورة مراجعة شاملة لمجمل المنظومات الفكرية السائدة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، وبكل ما يمس حياة المواطن التائه بين مرجعيات فكرية متضاربة مختلفة ومتخلفة ووسط ضخ إعلامي يشكل الطابور الخامس أداته الفعلية، وبين حياته المزروعة بالخوف من القتل والتشريد والتهجير والغلاء والإيجار والذل اليومي وفقدان الكرامة.

ربما يمكنني القول إن هناك ازدحام المصطلحات والمصطلحات المضادة، وبالعموم يشكل التمترس السمة البارزة لأصحاب هذه المصطلحات، وهي عوائق وهمية بنظري، لأن المشتركات أوسع ونقاط التلاقي والتفاهم يمكن أن تشكل مروحة واسعة لحل الأزمة السورية خاصة بين معتنقي التيارات الوطنية.. فنظرة إلى التجارب السياسية المعاصرة والقديمة نستنتج أن نجاح التجربة أو فشلها غير مرتبط مطلقاً بالفكر والعقيدة التي يتبناها هذا الحزب أو ذك إلا بمقدار كفاءة المنتمين لهذه النظرية، ومقدار تطويرهم لها بما يتلاءم مع المكان والزمان اللذين يشكلان المحيط البيئي الفعال للنجاح والفشل.

الدين.. انفصال المجتمع والدولة

لا يمكن فصل الدين عن المجتمع.. إن من يفكر على هذه الطريقة يكون طوباوياً حسب اعتقادي.. لم تتعرض أدبيات حزبنا لهذه المسألة ولا مرة واحدة في تاريخه منذ التأسيس، ولكنه سعى وناضل لجعل الدين رافعة وطنية تسهم في المجموع العام للعمل الوطني، كما سعى لفصل الدين عن الدولة وعمل جاهداً لتكريس علمانية الدولة، ورفض استثمار الدين في المفاعيل السياسية احتراماً له من حبائل السياسة. كما رفض بشدة مسايرة الاتجاهات الظلامية التكفيرية ومغازلتها وأصحاب تغليب الانتماءات الطائفية على الانتماء الوطني.

طبعاً انطلق حزبنا من قناعاته المستمدة من المنهج الفكري ومن الخصوصية السورية، ومواقف الحزب واضحة في العديد من القضايا، كقانون الأحوال الشخصية والقانون المتعلق بمنح الجنسية لأطفال المرأة السورية وله مواقف مشهودة في ذلك.

في ذهنية التكفير والتحريم

من مفرزات الأزمة السورية كما أرى موضوع (الدولة والفوضى) و(العلمانية والدين). الانتماءات بمختلف أشكالها، إذ لعبت هذه الانتماءات الملونة طائفياً أدواراً كارثية على حساب الانتماء الوطني، ولعب بعض رجال الدين أدواراً مرعبة في تكريس التفتيت السوري الوطني، وهذا يجرنا إلى شيء اسمه (رجل دين).. هنا لا نجد في الأساس وفي كل الموروث والتراث الديني أي شيء يتعلق بهذه التسمية، ولا حتى طبقة أو فئة السادة علماء الدين، ولا أظن أن نجد له مرادفاً في الكتب التاريخية.. لكن من أين أتت؟

ربما كان العديد من المفكرين المتبحرين في علوم الفلسفة واللغة والطب والفلك يشغل بالهم التفكير الديني، وهذا طبيعي لا غبار عليه، لكنهم لم يكونوا رجال دين متخصصين مثل ابن سينا وابن حيان وابن رشد والخوارزمي.. إلخ، وبسبب رفض الكثيرين من هؤلاء العلماء مسايرة أولي الأمر، ألصقت التهم بهم، وحتى إعدامهم بحجة الزندقة والإلحاد، نذكر منهم محيي الدين بن عربي والحلاج والأصفهاني وابن الطفيل وأبو العلاء المعري، وهنا لا نغفل الدور التحريضي الذي لعبه ابن تيمية في تكفير الكثير من الفلاسفة والعلماء.. لكن عندما ابتليت الأمة العربية بالاحتلال العثماني البغيض، كانت الطامة الكبرى والكارثة الحقيقية. لقد اتبع المحتل العثماني سياسة التجهيل والقمع وتشويه الدين الإسلامي، وساهم في إيجاد فئة من رجال الدين المزيفين الذين أعطاهم امتيازات وجعلهم دعاة وخدم له، فعملوا على تشجيع الخرافات والبدع، وساهموا بكل ما يستطيعون بنشر الأمية والضلالات في صفوف الشعب للحفاظ على سيطرة المحتل، وبقاء الشعب في حالة خنوع.

وجاء عصر النهضة بعد ذلك، وكان من أبرز ممثليه جمال الدين الأفغاني الذي حاول تصحيح الدفة باتجاه دائرة العلم والعقل، متجاوزاً كل عوائق المذهبية الضيقة، علماً بأنه خريج (قم والأزهر)، وتوسعت الحلقة، بانضمام تلامذته محمد عبده والكواكبي وغيرهم الذين لعبوا الدور المنوط بهم، لكن دائرة التخلف المتجذرة في العقلية الإسلامية التقليدية كانت العائق الأكبر للتنوير، بحيث جرى تعزيز هذه العقلية من أفكار الوهابية الإنكليزية التي لبست الغطاء الراديكالي من الرؤية الأعرابية الصحراوية الغليظة والجلفة، والتي تركت أثرها الكريه في التراث الإسلامي، الذي بدأت تفوح منه رائحة القتل والدم مجبولة بأمراض الصحراء والسادية النفسية.

من كل ما ذكر، نستنتج كم هي صعبة المهمة القائمة أمام اليساريين المتنورين لتصحيح منهجية العقل والتفكير الديني وإعادة الاعتبار للجانب الديني المعتدل والحضاري الذي تميزت به.

من سردنا السابق الذي ركزنا فيها على ذهنية التكفير التي لم تكن محصورة فقط بأصحاب التيار الإسلامي السياسي، بل مارستها أيضاً، في حياتها الداخلية ، وإن بنسبة مختلفة، القوى السياسية الأخرى الوطنية والليبرالية.

أود أن أقول ونحن على أعتاب العام السادس من الأزمة، والبلد مقدم على حلول سياسية لم تتضح معالمها، إنه حتى لو انتهى الصراع، ستكون هناك مشكلات عظمى منها مشكلة اللاجئين وإعادة الإعمار.. إلخ. والسؤال المطروح: هل هيأت قوى اليسار نفسها للمرحلة المقبلة؟ ثم ماذا فعلت بالملموس خلال سني الأزمة؟

حقيقة، إن كل القوى الوطنية والتقدمية أمام استحقاق الحياة، أو الموت السريري، فالكثير منها يعيش على ماض مجيد رحل، فوحدة العمل الوطني تتطلب تشكيل تحالفات وطنية واسعة مع وضع استراتيجية وطنية لإعادة تأهيل الأجيال القادمة عبر برامج وطنية ديمقراطية دستورية تجعل من الانتماء للوطن أهم الانتماءات.. فهل سيتحقق ذلك في القادمات من الأيام؟ سينكشف ذلك لاحقاً.

العدد 1105 - 01/5/2024