جيوفاني بوكاشيو

نادراً ما يكون المرء مناقضاً لعصره إلا إذا كان صاحب نورانية مصطفاة، أو رسالة أوصلته إلى هذه القناعة بأن يكون كذلك، فالكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو الذي كان من المفترض له أن يعبّر عن روح عصره، القرن الرابع عشر الميلادي، نحا نحواً مخالفاً تماماً في كتاباته، وتفكيره، وتصوراته، هذا غيرتصرفاته أيضاً، فعصره هو القرن الرابع عشر الميلادي الذي عُرف بالنظرة المثالية، وتقديس عالم الروحانية، وهجر كل ما هو مادي، والارتقاء علواً عن عالم الملذات، واتخاذ المثالية صيغة حياة وعيش، أما هو جيوفاني بوكاشيو، فكان مادياً إلى حدّ الاستغراق، وكان عاتباً في مستهل شبابه يطارد المتع على الرغم من كل الوصايا والإرشادات التي زوّده بها المجتمع، والحس الشعبي العام، والمواعظ التي أتخمه بها والده، كان العصر مثالياً، وبوكاشيو مادياً، وكان العصر عابساً متجهماً، وكان بوكاشيو منطلقاً، وكانت حالات العشق التي يتحدث عنها الناس ويعقدون لواءها هي القصص المشدودة إلى رباط المثالية  والروحانية، أما بوكاشيو فمضى إلى قصص العشق المادية الأرضية واستغرق فيها، وأعلن عنها إلى حدّ أنها غدت أشبه بالفضائح حين تناقلها الناس على أنها حدث مستهجن كريه، وكان العصر عصر المال، وبوكاشو ينفق كل مال يصل إليه، وكان العصر عصر رجال الأعمال، والقانون، والساسة، وبوكاشيو لا يريد أن يكون واحداً منهم، وكان العصر عصر الكتابة باللاتينية، اللغة الرسمية، وبوكاشيو يميل إلى الكتابة باللغة المحلية (التوسكية) وكانت صيغ الكتابة في عصره تميل إلى تقليد الصيغ الإغريقية، وهو يريد أن يكتب بلغة الناس، لغة البساطة والواقعية.

ولعل والده كان ممثلاً لعصره بامتياز فقد أراد له أن يكون رجلاً من رجال الأعمال المعروفين في مدينة (فلورنسا)، ثم في مدينة (نابولي) التي سافر إليها، وعاش فيها سنوات، وحين لم تتحقق رغبة الوالد، ألحقه بجامعة (نابولي) ليدرس فيها علوم القانون لعله ينقذ سمعة ابنه وسمعته في آن، لكن جيوفاني الذي يدرس علوم القانون على مضض، نفر من وطأة علومها وآرائها، وتوقف عن متابعة الدراسة على الرغم من غضبة والده الذي استسلم إلى رغبت ابنه الباحث عن المجد والشهرة في عالم الأدب.

ولد جيوفاني بوكاشيو سنة 1313 في مدينة باريس من زواج غير شرعي لأب إيطالي، وأم فرنسية، وقد رعى الأب ولده رعاية كاملة، حاول من خلالها أن يعوضه عن حنان أمه التي بقيت في باريس، لأن جيوفاني كان ثمرة لقاء عابر ما بين والديه، ولم تكن خططهما معاً أن يؤسسا أسرة في المستقبل. استقدم الأب مربية تشرف على رعاية ولده جيوفاني، مثلما استقدم له المدرسين الذين تعاونوا على تدريسه مختلف أنواع العلوم، وقد رأى أساتذة اللغات والتاريخ براعات جيوفاني المجلية، فقد كان صاحب اهتمام واضح باللغات والتاريخ، وسيظل جيوفاني بوكاشيو صاحب اهتمام باللغات والتاريخ طوال حياته، لقد أتقن اللغات الإيطالية، والفرنسية، واللاتينية، واليونانية وحذقها جميعاً.

كما أنه أحب التاريخ، فاستغرقته عصوره الماضية، وتجارب أعلامه في مختلف فروع المعرفة، وبسبب ثقافته الراجحة، بدا جيوفاني أكبر من عمره الزمني، لذلك أرسله والده في مهمة تجارية من مدينة (فلورنسا) إلى مدينة (نابولي) ليشرف على تجارة فيها، كاستيراد الشحنات التجارية القادمة إلى والده، وتصدير البضائع المقابلة لها لطالبيها في المدن الأوربية، وقد أصاب جيوفاني بعض النجاح في عمله، على الرغم من طراوة عوده، لكنه في النهاية لم يحقق الرجاء الذي أراده والده، لأن عشق الأدب تمكن من جيوفاني إلى حدّ أن والده صرح بأن اهتمام ولده بالكتب يفوق اهتمامه ببيع البضاعة وشحنها، ولكن هذا الرأي لم يكن سوى مقدمة ليعترف الوالد بأن ابنه جيوفاني أصاب من الثقافة (من خلال حبه للكتب) ولمعرفة ما لم يصبه الطلاب الدارسون في الجامعات.

غير أن ما أغضب الوالد مرة أخرى هو أن هيام جيوفاني بالكتب والقراءة والكتابة قرنه بهيامه بالنساء، وأنه أنفق من الوقت والمال على شراء الكتب مثلما أنفق على علاقاته بالنساء، وبذلك كان على خلاف تصورات شباب عصره الذين كانوا يبحثون في عوالم السماء عن الجحيم، والمطهر، والفردوس، لأن العصر كان عصر دانتي، أما جيوفاني فراح يبحث عن جنته الموعودة في الدنيا، وفوق الأرض تماماً، بل كان بخلاف ما فعله أساتذته الكبار في الأدب والثقافة، أمثال دانتي، وبترارك، فدانتي اتخذ من (بياتريس) حبيبة روحية، وبترارك اتخذ من (لورا) حبيبة روحية أيضاً، لينسج الاثنان قصصاً مثالية، أما جيوفاني بوكاشيو فاتخذ (ماريا) حبيبة أرضية من لحم ودم، فهي مثله ابنة غير شرعية لملك (صقلية) ولم يجعل منها الرياحين، أو الغيوم، وإنما جعل منها (لهبة زرقاء) لنار كاوية لأنه كان على قناعة بأن الحب محرقة والحبيبة إن لم تكن (لهباً) ولو صغيراً، فهي غير جديرة بالحب، وبهذا نعى بوكاشيو على عصره نظرته المثالية المحتشدة بالعبوس، والكبرياء الكاذبة تجاه الأشياء، وتجاه المرأة أيضاً، لقد دعا إلى حياة تقوم على المرح والفرح والضحك والمتعة بدلاً من الحياة القائمة على الخداع، والمواراة، والنفاق، والمثالية الكاذبة، أراد أن يوازي الأدب بحياة الناس، وأن يجعله المعبر عن حياتهم، وأحلامهم، ورغائبهم، أو لنقل أراد للناس أن يروا أنفسهم في مرايا الأدب الواقعي الجديد.

كتب بوكاشيو قصائد كثيرة رغبة منه في أن يكون شاعراً كبيراً ذائع الصيت مثل دانتي، وبترارك، لكنه لم يوفق، فقد كان شاعراً عادياً، ولم يكن شاعراً مبدعاً، وقد تحوّل عن كتابة الشعر مرات، حين كتب نصوصاً قصصية لم تلاق هي الأخرى الاهتمام الذي توخاه، كما أنه لم ينجح حين كتب سيرتي (دانتي) و(بترارك)، مع أنه بذل في سيرة دانتي الكثير من الجهد والتقصي، ومع أنه عايش (بترارك) سنوات، وتعلم على يديه، وأخذ بنصائحه، ولعل نصيحة (بترارك) التي دعته إلى ترك الكتابة باللغات المحلية، والكتابة باللغة اللاتينية ليصبح كاتباً عالمياً، وأن يدع الأمور الصغيرة (المحلية) ويكتب القضايا الكبيرة التي تبقى، لعل هذه النصيحة هي التي حدّدت مستقبل جيوفاني بوكاشيو، انصرف إلى الكتاب الذي خلّده، ونعني به حكايات (الديكاميرون).

لقد أنفق بوكاشيو خمس سنوات من عمره ليكتب الـ (ديكاميرون) وهي لفظة يونانية تعني العدد عشرة، وفي هذا العنوان سر هذه الحكايات، فهي قائمة على فكرة فحواها: أن تظل الحياة جميلة وممتعة على الرغم من ظهور وباء الطاعون واجتياحه لمدينة (فلورنسا) حتى طال أربعة أخماس سكانها، وكان من بين ضحايا هذا الوباء (والده) و(حبيبته ماريا).

تقوم حكايات الـ (ديكاميرون) على عاتق عشرة أشخاص هم سبع فتيات، وثلاثة شبان، ويتفق الجميع على الهروب من الوباء (الطاعون) إلى الريف، وأن يقيموا هناك فلا يخرجون مدة عشرة أيام، على أن يقصّ كل واحد منهم قصة واحدة في الليلة الواحدة، وبذلك تتوافر لهم، عشر قصص، يحدد أحدهم، وفي كل ليلة، موضوع القصص التي تناولت قسوة الحياة وصدودها خلال سنوات طوال ثم الظفر بالنجاح كخاتمة، وتصوير حياة أشرار أوغاد عاشوا في سرور ونعيم على الرغم من كل الوسائل القبيحة التي استخدموها، والنيات القبيحة التي عملوا عليها، ثم الحكايات الحزينة، ومن بعد القصص المرحة والمشاهد المرحة، وكذلك قصص النساء اللواتي لم يكن وفيات لأزواج خونة وأنذال لم يعرفوا طعم الشهامة يوماً، وكذلك قصص الزوجات الوفيات، ومنها (تمثيلاً) قصة الملك الذي هام بزوجة أحد قواده، فأرسله في إحدى حملات الفرنجة إلى المشرق العربي، ليتخلص من وجوده أولاً، ولكي تخلو الساحة فيلتقي زوجته الجميلة في منزله الذي شغر فيه، ولأن الزوجة كانت وفية لزوجها، حافظة لمعاني غيبته، فإنها تلجأ إلى حيلة لكي تصرف الملك عن رغبته بها، وهي غير القادرة على أن تحول بينه (وهو الملك) وبين زيارتها في بيتها،فتولم للملك عشاءً مؤلفاً من لحم الدجاج، وهو على الرغم من تعدد أطباقه إلا أنه يظلّ مؤلفاً من لحم دجاج، وهذا ما يلفت انتباه الملك، فيسأل السيدة التي أغرم بها، أليس في المدينة يا سيدتي من طعام سوى الدجاج، فتقول له السيدة: بلى يوجد يا سيدي، ولكن النساء كالدجاج، فهن على اختلاف مظهرهن سواء في كل مكان، وبالقول هذا يدرك الملك مرامي السيدة، ويعرف أنها غير راغبة به، وأنها تريد البقاء على إخلاصها لزوجها المسافر، فينصرف الملك عنها عائداً إلى دارته وهو يمضغ طعام الهزيمة المر.

وهكذا استطاع بوكاشيو، ومن خلال قصص (ديكاميرون) أن يصور الحياة الاجتماعية المضمرة في القرن الرابع عشر الذي أبدى في جميع مظاهره أنه عصر للمثالية، والأفكار العلوية التي عبر عنها (دانتي)، و(بترارك) ليس انطلاقاً من واقع المجتمع الإيطالي، وإنما انطلاقاً من روح العصور الإغريقية التي أمنت بأن العالم مقسوم إلى بشر وآلهة، وإلى وقائع ومصادفات، وإلى أحزان تجاورها الأحلام، وإلى رغائب تولد لتموت، في حين أراد بوكاشيو وبوضوح شديد أن يقول إن حياة الإنسان مهمة وجديرة بأن تكون ملوّنة، وسارة، وممتعة، وقد كانت هذه قناعة أصلاً، لكنه وفي أخريات عمره، كان دائم القول والتصريح: إنه نادم أشد الندم على كتابة قصص الـ (ديكاميرون)، وكاد أن يدخل أحد الأديرة لكي يترهبن من أجل التكفير عن غلطته (كتابة قصص الديكاميرون)، التي أحسّ من خلالها أنه باح بما أراد عصره، عصر القرن الرابع عشر الميلادي أن يخفيه، والحق أن جيوفاني بوكاشي، لا يُعرف اليوم بأنه ابن الصيرفي الفلورنسي، أو بأنه تلك الثمرة لذلك الحب العابر بين والديه، ولا بكاتب سيرة (دانتي)، أو سيرة (بترارك)، ولا بذلك السياسي الإيطالي الذي حمل الرسائل إلى الملوك، والأمراء من أهل السياسة في أوربا، وإلى البابا من أهل العقيدة، وإنما يُعرف بأنه ثالث الثلاثة الكبار من أدباء إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، وهم: دانتي، وبترارك، وبوكاشيو، ويُعرف أيضاً بأنه صاحب الغلطة الأجمل في عالم الأدب، غلطة (الديكاميرون) الرائعة.

العدد 1107 - 22/5/2024