لماذا كان ماركس محقّاً؟ (42)

لقد عرضتُ في أكثر من موضع في هذا الكتاب أن الماركسيين هم الأقدر من أتباع أي حركة سياسية أخرى على شرح كيفية حدوث أعمال الإجرام التي قام بها رجال مثل ستالين، بشكل مقنع جداً، وكذلك أيضاً كيف يمكن تفادي حدوث مثل هذه الفظائع مرَّة أخرى. لكن ما هو وضع جرائم النظام الرأسمالي؟ وما هو الموقف من حمّام الدم المرعب الذي حصل في الحرب العالمية الأولى، عندما انتزعت دول إمبرياليّة، طامعة في احتلال أراضي الآخرين، عمّالها من عملهم وأرسلتهم إلى موتٍ لا فائدة منه؟ إن تاريخ الرأسمالية، بين أمور عديدة أخرى، هو تاريخ الحروب الكونية والاستغلال الاستعماري وإبادة الشعوب وكوارث المجاعات التي كان بالإمكان تفاديها. وبينما أنجب نوع مشوه من الماركسية الدولة الستالينية، أدّى نوع مشوَّه من الرأسمالية إلى ظهور الفاشيّة. وعندما مات في أربعينيات القرن التاسع عشر مليون إيرلندي جوعاً، حصل ذلك لحدِّ كبير لأن حكومة بريطانيا العظمى أرادت، في سياق سياستها البائسة للمساعدة، احترام قوانين اقتصاد السوق بشكل صارم. لقد رأينا غضب ماركس الصارخ، عندما أخبرنا في (الرأسمال) عن الملاحقة الدموية والمستمرّة للفلاحين الإنكليز وكيفيّة طردهم من أراضيهم. تختبئ خلف هدوء الحياة الرغيدة في الريف الإنكليزي قصصُ نزع المُلكية بالعنف. وبالمقارنة مع هذه الأحداث المرعبة التي دامت طويلاً جداً، كان أيُّ حدثٍ آخر كالثورة الكوبيّة مثلاً (شربة مي).

بالنسبة للماركسيين، يعتبر التناقض (المميت) من خصائص الرأسمالية، ولا ينسحب ذلك على صراع الطبقات فحسب، بل على الحروب التي تُسببها الدول الرأسمالية أيضاً، عندما تصطدم مصالحُها عند البحث عن الموارد، أو عند النزاع على مناطق النفوذ في العالم. وعلى العكس من ذلك، كان السلام أحد أهم أهداف الاشتراكية الدولية. وعندما وصل البلاشفة إلى الحكم، سعوا إلى انسحاب روسيا من حمّام دمّ الحرب العالمية الأولى، كما لعب الاشتراكيون في التاريخ الحديث دوراً هاماً في أغلب حركات أنصار السلام، بسبب اشمئزازهم من العسكرة والشوفينية. ولم تهتم الحركات العمالية بالعنف، بقدر ما اهتمّت بإنهائه.

وقف الماركسيون دائماً ضدّ ما يسمى بـ(عقلية المغامرة)، أي ضدّ تحريض جماعة صغيرة من الثوريين، بلا مبالاة، على مجابهة آلة الدولة الأقوى. فالثورة البلشفية لم تنفذ من قبل عصابة متآمرة، بل من أناس كانوا يجلسون في مؤسسات السوفييت الشعبية. ولقد هزئ ماركس من الانتفاضة البطولية المضحكة وقادتها الغاضبين الذين يهجمون على المدافع وهم مسلحون بالعصي والمذاري. ولا بد للثورة الناجحة، برأيه، من تحضيرات مادية معيّنة. لا تكفي الإرادة الحديدية والتسلّح بالصبر. في أوقات الأزمات الخانقة، عندما تكون الطبقات الحاكمة ضعيفة ومتفكّكة، وعندما تكون القوى الاشتراكية قوية وجيدة التنظيم، تكون فرصة النجاح أكبر بكثير من الأوقات التي تكون فيها الدولة بكامل قواها والمعارضة خائفة وغير موحَّدة. وبهذا المعنى، هناك علاقة بين نظرية ماركس المادّية العناد الذي استخدمه لدى تحليل القوى الفاعلة في المجتمع وبين قضية القوى الثورية.

جرت جميع الاحتجاجات العمالية في بريطانيا العظمى، انطلاقاً من انتفاضة الكارتيست وحتى مسيرات الجوع في ثلاثينيات القرن العشرين، بشكل سلميّ، (حركةُ الكارتيست)، حركة إصلاحية في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر، نادت بتشكيل النقابات وتقليص ساعات العمل وتحسين ظروفه وتوسيع حق الانتخاب وإزالة الضرائب الجمركية على الحبوب. وعموماً، يمكن القول بأن الحركة العمالية لم تمارس العنف إلا إذا استُفزَّت أو إذا اضطرتها الحاجة إلى ذلك، أو عندما لا تحقق الاستراتيجيات السلمية أي شيء. والشيء ذاته يسري أيضاً على الحركة النسائية. إن كره العمال لسفك الدماء يختلف كليّاً عن استعداد الحكّام لاستخدام الهراوات والمدافع ضدّهم، فضلاً عن أن العمال لا يملكون الآلة العسكرية الموجودة بحوزة الدولة الرأسمالية. ولقد أصبح من المألوف في العالم، وفي هذه الأيام بالذات، أن تستخدم دولة قمعية السلاح بلا مبالاة ضدّ مضربين أو متظاهرين سلميين. ويقول والتر بنيامين بأن الثورة لم تعد ذلك القطار السريع، وإنما هي تشغيل المكابح الاحتياطية ، إذ إن الرأسمالية الملاحقة من فوضى الأسواق أصبحت منفلتة من عقالها، بينما تحاول الاشتراكية إعادة هذا الوحش إلى حيِّز المراقبة الجماعية.

إذا استخدمت بعض الثورات الاشتراكية العنف، فهذا عائد على الأقلّ إلى أن الطبقات المالكة لا تتنازل عن امتيازاتها دون قتال. ومع ذلك، هناك من الأسباب المنطقية ما يكفي لقبول أن يبقى استخدام العنف في أدنى الحدود. فالثورة بالنسبة للماركسية ليست انقلاباً أو تعبيراً تلقائيّاً عن غضب، وليست محاولة إسقاط الدولة. هذا ما يتوخاه الانقلاب العسكري. لكن الماركسيين يفهمون الثورة بشكل مختلف. لا يمكن الحديث عن ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا عندما تُنهي طبقة اجتماعيّة حكم طبقةٍ أخرى وتحلُّ محلَّها.

وهذا يعني في حالة الثورة الاشتراكية أن تستلم الطبقةُ العاملة المنظَّمة وحلفاؤها السلطة من البرجوازية أو من الطبقة الوسطى الرأسمالية. إننا نتحدث هنا عن فعاليّات الأكثرية، وليس عن أفعال عصابةٍ صغيرة من المتمرّدين. وبما أن الأمر يتعلّق في الاشتراكية بالحكم الذاتي للشعب، فلا يمكن تصدير الثورة الاشتراكية.

يقول تشيسترتون في هذا الصدد: (إن تقرير الشعب لمصيره يشبه كتابة رسالة غرام أو تنظيف الأنف، وعلينا أن نتوقّع في مثل هذه الحالات أن يقوم الإنسان بهذه المهمة بنفسه، مهما كان جاهلاً بها. قد يكون خادمي أكثر مهارة منّي في تنظيف أنفي، ولكن ومن أجل احترامي لنفسي، يفضل أن أقوم بذلك بنفسي). على الأقل بين الفينة والأخرى (إذا كنتُ الأمير تشارلز). لا يمكن لأيّة طليعةٍ حازمة أن تقدم لكم الثورة على طبق من فضّة، كما لا يمكن، وهذا ما كان لينين يردده دائماً، إكراهُ دول أخرى على ذلك بالحراب، كما فعلها ستالين في دول أوربا الشرقية. لا بد من أن يشترك الشعب بهمّة ونشاط. وبغير ذلك، لا يمكن للناس المهمَّشين سابقاً لحدٍّ كبير أن يحصلوا على الخبرة والمعرفة والثقة بالنفس اللازمة لإعادة تشكيل المجتمع بكامله. ولهذا لا يمكن للثورة الاشتراكية إلا أن تكون ديمقراطية. والطبقة الحاكمة هي الأقليّة اللاديمقراطيّة. وجماهير الشعب الواسعة، التي تشترك بمثل هذه الانتفاضات، هي الضمان الأكيد ضدّ عنف الدولة المفرط. وهكذا تكون الثورات المرشَّحة للنجاح هي تلك التي لا تحتاج إلا إلى أدنى قدرٍ من العنف.

وهذا لا يعني أن الثورات لا تستثير الحكومات لارتكاب أفظع المجازر الدموية، إلا أن أي حاكم، مهما كان مستبداً، لا بد له من الاعتماد على حدٍّ أدنى من الشعبيّة، مهما كانت ظاهرية ومؤقّتة. لا يمكن الاستمرار بحكم شعب غير راضٍ عن حاكمه ولا يمنحه القدر الأدنى من المصداقيّة. يمكن بين الحين والآخر اعتقال بعض الأشخاص، لكن لا يمكن اعتقال الجميع إلى الأبد. الحكومات التي سلكت هذا السلوك المشين يمكنها البقاء في الحكم مدةّ طويلة، لنتذكّر حكومة بورما أو زمبابوي، لكنها لن تستطيع في النهاية، مهما كانت مستبدّة، إغفال الشعارات التي تخطّها أيدي التلاميذ على الجدران. لم تجار أيّةُ حكومة تعسّف نظام الفصل العنصري وإجرامه في جنوبي إفريقيا، لكن كان عليها أن تُدرك في نهاية المطاف أنها لن تستطيع الاستمرار بهذا النهج. وقد سرى الشيء ذاتُه على الدكتاتوريات في بولونيا ورومانيا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية وباقي دول أوربا الشرقية في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، والشيء نفسه يسري اليوم على الوحدويين في إيرلندا الشمالية الذين أُجبروا على الاقتناع أخيراً بعدم جدوى تهميش مواطنيهم الكاثوليك، كما سيسري على دكتاتوريّات أخرى في العالم.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1107 - 22/5/2024