هواجس عربية.. أفكار في النهضة والتنمية

بين ما نشره الباحث عبد القادر النيال في جريدة (البعث) عام 1965 تحت عنوان (احترام الإنسان هو المقياس الوحيد للتقدم)، وما نشره صيف عام 2013 في مجلة (شؤون المتوسط) عن (تركيا وخياراتها الاستراتيجية)، يمتد بحر من الهواجس والهموم والمشاكل والأزمات التي تعتري المنطقة والعالم.. يحاول النيال أن يجمعها في كتاب له صدر حديثاً بعنوان (هواجس عربية).

لا يوجد رابط بين المقالات التي يحتويها الكتاب سوى أنها تعود للكاتب نفسه، فتنوس المواضيع بين الجيوسياسية والاقتصادية والاقتصاد السياسي، كما لا يلتزم الكتاب بالتسلسل التاريخي للمقالات.

يقول الكاتب في شرح هذه الحالة: (قد تبدو مقالات هذا الكتاب أوراقاً متناثرة هنا وهناك، لكن إمعان النظر في محتوى كل مقال كفيل بإزالة هذه الفكرة من ذهن القارئ الكريم، ذلك أن الجذر الرئيسي الذي تشعب في تربة هذه المقالات هو الواقع العربي بكل ما فيه من استطالات وتفرعات).

في المقال الأول، وهو من أواخر المقالات تاريخاً، يحلل الكاتب خيارات تركيا الاستراتيجية، ويلخصها في ثلاثة خيارات مستشهداً بصموئيل هنتنغتون في محاضرة له بإستنبول عام 2005:

1 ـالخيار الأوربي مع ما يعنيه من منافع اقتصادية لتركيا مقابل الحد من حرية تحركها في المجال الاقتصادي ومن تنفيذ سياسات مستقلة في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر.

2 ـ الخيار الإسلامي الذي يقوم على ضرورة وجود دولة قيادية في الإسلام ـ حسب هنتغنتون ـ وتركيا هي الدولة الأنسب لهذا الدور، لكن هذا الأمر يواجه مشكلتين: الإرث الأتاتوركي العلماني، والتاريخ الاستعماري العثماني مع الشعوب الإسلامية المجاورة لتركيا.

3 ـ الخيار القومي لتركيا في محيط نووي في غالبيته، ومليء باحتمالات الانفجار والإرهاب، لذلك ينصحها هنتنغتون بأن تعزز علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة وإسرائيل والحلف الأطلسي.

ما فعلته حكومة العدالة والتنمية، كما يرى الكاتب، هو أنها حاولت السير في المسارات الثلاثة، اي عملت على الخيارات الثلاثة: الأوربي والإسلامي والقومي بآن واحد. (ص 19)

وهنا يكمن مأزق السياسة التركية في الجمع بين أكثر من خيار استراتيجي، ويضرب مثلاً محاولة تركيا استمالة العرب من باب القضية الفلسطينية، والسير باتجاه تعزيز العلاقات مع إسرائيل في الوقت نفسه.

تعقيد آخر واجه الخيارات الاستراتيجية لحكومة العدالة والتنمية تمثل في عجز تركيا عن تحقيق مصالحة تاريخية مع تاريخها ومكوناتها الإثنية، خاصة الأرمن والأكراد، بفعل النزعة القومية العنصرية التركية أيضاً (ص 27).

ويخلص إلى نتيجة أنه لا مناص لشعوب المنطقة ودولها، ومنها تركيا، من الإدراك أنه لا أمن لها خارج أمن المنطقة.

في الاقتصاد السياسي للرأسمالية يكتب النيال عن (الرأسمالية الأمريكية من التوسع إلى السيطرة)، يستعرض فيه جذور النزوع الأمريكي إلى الهيمنة على العالم ومنع نشوء أي قطب آخر منافس لها، والاقتصاد الأمريكي الذي يمثل ثلث الاقتصاد العالمي بحاجة إلى التوسع باستمرار لتجنب حالة الركود والكساد.

تتجسد استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة حسب الكاتب في ثلاثة أهداف رئيسية:

تأمين الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم، وضمان السيطرة على منابع النفط، وإحكام القبضة على منطقة الشرق الأوسط.

ولتحقيق هذه الأهداف تستخدم القوة المفرطة والحروب الاستباقية.

ويتنبأ ببدء سقوط المشروع الإمبراطوري الأمريكي عبر مؤشرات عدة، منها نجاح قوى وطنية في الوصول إلى الحكم عبر انتخابات حرة (فنزويلا، البرازيل أسبانيا، الهند،… ) وتصاعد المعارضة لسياسات واشنطن في أنحاء مختلفة من العالم.

عن العلاقة الوثيقة المتبادلة بين الإصلاح السياسي (الديمقراطية) والإصلاح الاقتصادي (التنمية) تدور محاضرة ألقاها عام 1998 بدمشق بعنوان (التنمية والديمقراطية)، إذ يرى أن القضية الرئيسية في التنمية البشرية هي المشاركة الشعبية (ص 45). وهذا يتطلب وجود نهج ديمقراطي في الحكم، حيث الديمقراطية تمثل الإطار الذي يوفر أفضل الشروط للتنمية والتقدم والاعتماد على النفس، إضافة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، والتوزيع العادل للثروات.

مآلات التيار القومي العربي تجد مكاناً لها في الكتاب في مقال منشور في ملحق (حوار) عام ،2009 وهو ملحق فكري اقتصادي سياسي كانت تصدره جريدة البعث.

يحاول الكاتب الإجابة عن سؤال العنوان: ماذا حدث للتيار القومي العربي؟!

ويؤكد الحاجة إلى مراجعة موضوعية ومعمقة للتجربتين الناصرية والبعثية، من جهة عجزهما عن تحقيق الوحدة، والحرية أو الديمقراطية، والاشتراكية، بصفتها ركائز وأهدافاً للفكر القومي العربي.

(دروس من تجربة الحركة الصهيونية) هو عنوان لسلسلة مقالات نشرها الكاتب في جريدة (الكفاح العربي) عام ،1998 تحدث فيها عن أساليب الحركة الصهيونية وتكتيكاتها واستراتيجياتها في تحقيق هدفها المتمثل باحتلال فلسطين وترحيل سكانها.

فكان الإعلام والمال والتغلغل داخل بعض الكنائس الأنكليكانية، بعض أساليب هذه الحركة في تحقيق هدفها. وتضافرت هذه الأساليب مع سوء الأوضاع العربية وتفتت الصف العربي.

يناقش بعض أفكار الوزير الأردني الذي كان أحد طباخي اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، في كتابه (نهج الاعتدال العربي ـ مذكرات سياسية) معنوناً مقاله بعنوان الفصل الأخير من كتاب المعشر: هل هناك أمل لقوى الاعتدال العربي؟

ويعيد صياغة السؤال بشكل أدق: هل يمكن لنهج الاعتدال العربي أن يعيد الأراضي المحتلة عام 1967 وأن يقيم للفلسطينيين دولتهم المنشودة؟! ص94

ويعيد فشل نهج الاعتدال العربي في تحقيق أي مكاسب إلى تغليب القطري على القومي، مؤكداً أن التنازلات لا قاع لها، وليس هناك اعتدال أو تطرف فيما يخص الحقوق، بل هناك تفريط أو تمسك بالحقوق.

كي لا تخرج الأمة العربية من التاريخ والجغرافيا، عنوان لمقال منشور في الهلال المصرية عام ،2004 يقدم فيه لوحة سوداء تعكس حقيقة الوضع العربي، ويحلل أسباب هذا الوضع، من الأنظمة المتهالكة والعميلة إلى الأحزاب المفتتة والمعزولة عن الجماهير، مع تغييب قسري للجماهير العربية عن ساحات الصراع بسبب غياب الديمقراطية.(ص119).

عناوين الكتاب الأخرى هي أقرب إلى أبحاث اقتصادية معمقة تحتاج إلى وقفات أطول لا متسع لها في عرض كهذا، ففي (التخطيط وآليات السوق) يستعرض تجارب عدة في التخطيط الاقتصادي والاجتماعي، كالتجربة اليابانية، والتجربة الفرنسية، والتجربة السوفييتية، مع ملاحظات حول تجربة التخطيط في سورية.

وفي قراءته لاقتصاد السوق الاجتماعي يستعرض نشأة المفهوم في أوربا، ومتطلبات هذا النموذج الاقتصادي.ثم يتبعه بسؤال: أية سياسات اقتصادية تنهض بالبلاد؟ مؤكداً أن الخلل في السياسات الاقتصادية وليس في النهج الاقتصادي.

ومن هنا يضع عناوين مكملة للبحث السابق: ترشيد السياسات الاقتصادية سبيل لمواجهة التحديات الراهنة، و(اقتصاد المجابهة)، و(السياسات الاقتصادية في زمن الحرب).

ينهي النيال الكتاب ببحثين مطولين وهامين، يتناول الأول منظمة التجارة الحرة العربية الكبرى في إطار العمل الاقتصادي العربي المشترك، وتأثيرها على الصناعة التحويلية العربية.

فيما يختص البحث الأخير بالأوضاع الاقتصادية الراهنة في منطقة الخليج العربي.

الكتاب يطرح أسئلة هامة ومصيرية، ويشكل إضافة لافتة إلى المكتبة الاقتصادية والفكرية العربية، وهو من إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب، ويقع في 255 صفحة من القطع الوسط.

العدد 1105 - 01/5/2024