حتمية الحروب الإمبريالية

شرح كارل ماركس في كتاب (الرأسمال) الطبيعة الحقيقية العميقة للرأسمالية: (ما يرعب الرأسمال هو غياب الربح.. فعندما يشتم ربحاً معقولاً، يصبح الرأسمال مبتهجاً، وعند نسبة 20 في المئة يصبح جريئاً، وعند نسبة 50 في المئة يصبح مغامراً، وعند نسبة 100 في المئة يسحق برجليه كل الشرائع الإنسانية، وعند نسبة 300 في المئة، فإنه لن يتراجع عن الإقدام على أية جريمة).

في الماضي نجحت الثورة البلشفية، وتشكلت الديمقراطيات الشعبية للمعسكر الاشتراكي، وتأثرت الكثير من الدول وحققت استقلالها بفضل حروب التحرير الشعبية، مما خلق موازين قوى أكرهت الإمبرياليات القديمة على تقديم تنازلات للكادحين وللثورات المناهضة للاستعمار للحصول على استقلالها.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين، والزيادات في الإنتاج الرأسمالي الإمبريالي، وخاصة في قطاعات الأسلحة، وشدة الطلب على الطاقة، وظهور الأزمة المالية التي ضربت المركز الرأسمالي في أمريكا.. ومع تعزيز التكتلات الاقتصادية الكبرى لمواجهة تحديات النمو، ومع اختلال ميزان القوى لصالح القوى الاقتصادية الصاعدة، واستمرار الركود الاقتصادي الأمريكي، الذي يضعف إمكانات سيطرتها وحماية مصالحها كما تدّعي، بدأت بسياسات تقشفية لا ديمقراطية في المركز، بحجة تفاقم المديونية والعجوزات المختلفة، وتبرير جرائمها وحروبها على الدول، بحجة نشر (الديمقراطية) و(حماية المدنيين)!

ورغم أن القطاع الهائل المنتج للأسلحة في القرن الماضي شكل تحالفاً بين الصناعة والحرب، وبين الدولة الرأسمالية والإمبريالية، وساهم بشكل أو بآخر بتلبية المتطلبات التوسعية والقمعية في الصراع الدولي، إضافة إلى أن الإنفاق العام للدولة في الغرب يذهب أغلبه في الأغراض العسكرية، في مقابل نسبة ضئيلة للإنفاق الاجتماعي، رغم الإيهام بخلاف ذلك. وتستمر التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي، وخاصة بين الرأسمال والعمل، وفي ظل الكشوف العلمية وثورة الثقافة، وتحول المعرفة إلى قوة إنتاج أساسية، وكل محاولات التغلب على الأزمات الاقتصادية الدورية، كل ذلك يوحي بحتمية الحروب الخارجية مخرجاً من هذه الأزمات، فكانت الحرب العالمية الأولى، وكذلك الثانية، مما أنتج ما يسمى نمط تقسيم العمل،وتدويل عملية الإنتاج ثم العولمة وديكتاتورية السوق.. كل ذلك يشير إلى أن الأزمة الرأسمالية المعاصرة، ربما تكون أشد خطراً عليها من الأزمات الفائتة.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش السيطرة على العالم قطباً أوحد، وأثر التزاوج بين المحافظين الجدد والفكر الصهيوني، جرى استغلال الدين للتغطية الميتافيزيقية والأخلاقية لأهدافهما ومخططاتهما، وكلنا يذكر قول بوش الابن بأنه حلم بالمسيح يطلب منه غزو العراق، في محاولة لتقديم تبرير ديني وأخلاقي.

وانطلقت سلسلة الحروب نتيجة لهذا التفكير الجهنمي، بحجة مكافحة الإرهاب وشيخوخة الأنظمة الاستبدادية، ونشر الديمقراطية وحماية المدنيين، وأبرزها حتى الآن حرب أفغانستان ويوغسلافيا سابقاً، وحربان على العراق، وغزة، ومهما كانت التسميات والمبررات، سواء بـ(ربيع) أو فوضى خلاقة أو غيرها، فهي مخططات ومشاريع وأهداف إمبريالية صهيونية قديمة جديدة.

والفوضى الخلاقة مفهوم قديم، ورد في أدبيات الماسونية القديمة وورد ذكره في أكثر من مرجع.. إلا أنه ارتبط مؤخراً بوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، وكان حديثها مع صحيفة (واشنطن بوست) عام 2005 واضحاً بهذا الشأن لنشر الديمقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل ما يسمى (الشرق الأوسط الجديد) عبر نشر (الفوضى الخلاقة).

كما أن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يشهد بدعم الجماعات الإرهابية، بهدف تحقيق مصالح محددة، ثم العودة والانقلاب عليها، فقد استغلت الإسلام السياسي المتطرف والجماعات الإسلامية لمحاربة الشيوعية والأنظمة التي كانت تربطها بالاتحاد السوفييتي السابق علاقات وأهداف مشتركة (مصر عام 1970 مع الإخوان المسلمين، وفي باكستان ضد ذو الفقار على بوتو، إندونيسيا ضد سوكارنو، والقاعدة في أفغانستان).

الدور الأمريكي في خلق الإرهاب في العالم، ثم الانقلاب عليه، بحجة محاربة الإرهاب دولياً، يطرح الشكوك في جدية التحالف الدولي ضد داعش، ومستقبل الإرهاب في المنطقة، لأن الإرهاب اليوم لم يعد ممارسة فردية بل أصبح يمارس من قبل الدول والحكومات، ويعطي أسماء وألقاباً تجعله مشروعاً، إذا كان يقوم به القوي، وما التهويل والضخ الإعلامي لقوة القاعدة وداعش إلا اتهام مدروس للإسلام، وهذا موضوع يحتاج إلى بحث ودراسة معمقة في غير هذا المكان. إن فخ الإرهاب واسع وعريض، وفُصّل بحيث يستطيع أن يستوعب عدداً كبيراً من اللاعبين والشغوفين بالأعمال الإرهابية من أفراد ومنظمات وحكومات ومخابرات، ومن أي طرف، وخاصة الصهيونية.

كل هذه المخططات الجهنمية الخبيثة، مردها الإبقاء على الرأسمالية واقتصادها، فالإنفاق العسكري أصبح ضرورة لتماسك الاقتصاد الإمبريالي، وهو رغم ضخامته يتعرض لهزات بنيوية عنيفة، ويعاني من الكساد والتضخم، والديون الأمريكية تبلغ نحو 160 تريليون دولار، وبقوتها العسكرية تسيطر على منابع النفط والغاز في العالم، لتحافظ على قيمة الدولار، الذي لا يملك أي احتياطي ذهبي.. وما انسحاب أمريكا من أفغانستان والعراق إلا بسبب عجز موازنتها وضعفها الاقتصادي، ولهذا جاءت بالحروب بالوكالة، والفوضى الخلاقة، والمشاريع الطائفية وغيرها، لتدمير الدول والشعوب دون أن تخسر مالياً وعسكرياً.. وإثارة الرعب وخلق ما سمي (عش الدبابير).. وبعد همروجة (الربيع العربي) تعود بلبوس جديد.. ومن الغباء السياسي الثقة بالإمبريالية والصهيونية، ولنا العبرة بقول أجدادنا (عدو الجد لا يود).. وويل للمضللين الذين هم عن مصالح أمتهم وأهدافها ساهون!

العدد 1105 - 01/5/2024