نيكولاي كوزنيتسوف… عميل سوفييتي خالد خلف خطوط الفاشية

كان يطلق على هذا الشخص لقب (عبقري جهاز المخابرات)، وقد أُلفّت عنه في الاتحاد السوفييتي كتُب، وصوّرت أفلام، وشيّدت نصب تذكارية، وافتتحت متاحف على شرف نيكولاي كوزنيتسوف، هذا الاسم الذي خلّد ليس فقط على وجه الخليقة، ولكن في الفضاء أيضاً، عندما سمّي أحد الكواكب الصغيرة باسمه.

كل ذلك في ظل حياة مشرقة ومدهشة ومليئة بالمفاجآت استغرقت 32 عاماً فقط من عمر العميل السوفييتي الأسطوري.

ولد نيكولاي كوزنيتسوف في قرية صغيرة في جبال الأورال عام 1911 وقد أظهر الصبي القروي البسيط قدرة مدهشة آنذاك على تعلم اللغات، فقد أتقن لغات الإسبرانتو والبولندية والألمانية من تلقاء نفسه.

وفي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي بدأت العلاقة بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر تتدهور حتى أصبحت الحرب أمراً لا مفر منه. وفي هذه الأثناء لفتت براعة نيكولاي كوزنيتسوف وقدرته على التحدث باللغة الألمانية بطلاقة منقطعة النظير انتباه الاستخبارات السوفييتية. ولدى وصوله إلى موسكو التحق الشاب كوزنيتسوف للتدريب في معسكر تابع للمخابرات السوفيتية، وتلقى أرقى مهمة له، وهي إقامة اتصال مع موظفي السفارة الألمانية. وظهر كوزنيتسوف أمام الألمان على أنه ابن البلد يدعى رودولف سميت، وهو مهندس يعمل في مصنع سوفييتي للطائرات. سحرهم المهندس وسرعان ما اكتسب مودة الدبلوماسيين الألمان وثقتهم، ونتيجة لذلك تمكن كوزنيتسوف من تجنيد اثنين من دبلوماسيي السفارة والحصول على معلومات هامة، وتمكّن من اعتراض الحقيبة الدبلوماسية الألمانية.

وفي 22 من شهر حزيران لعام 1941 هاجمت ألمانيا الاتحاد السوفييتي، وفي هذا الإطار خضع نيكولاي للتدريب أكثر من سنة للعمل لاحقاً في عمق خطوط العدو الألماني، وكان زملاؤه في دهشة من أمرهم للقدرة الهائلة في أداء الدور الذي لعبه كضابط ألماني.

وفي صيف عام 1942 وصل نيكولاي إلى ما وراء خطوط العدو، وبالتحديد إلى مناطق أوكرانيا المحتلة، واستقر في مدينة روفنو وبدأ ممارسة عمله. وهنا لابد من الإشارة إلى أن المعلومات التي حصل عليها العميل لا تقدر بثمن، فقد تمكن كوزنيتسوف وهو متقمص شخصية الملازم باول زيبيرت، من الحصول على موعد مع مسؤول عن القوات الألمانية في أوكرانيا إيريخ كوخ. وخلال الحديث أبلغ العميل السوفييتي بأنه كان يحارب بالقرب من مدينة كورسك، وهنا صرح كوخ بأن تلك المنطقة سوف تشهد قريباً أحداثاً هامة من شأنها أن تحسم نتيجة الحرب. بالطبع قام كوزنيتسوف بنقل هذه المعلومات إلى موسكو واتضح بعد ذلك أن الألمان كانوا يستعدون لشن هجوم كبير بالقرب من منطقة كورسك. وبفضل المعلومات التي نقلها كوزنيتسوف تمكنت القوات السوفييتية من التحضير والإعداد لصد الهجوم الذي فشل ولحقت بالقوات الألمانية هزيمة نكراء.

كما حذر كوزنيتسوف من مخطط يعد لاغتيال القادة الثلاثة ستالين وروزفلت وتشرشل خلال مؤتمر جمعهم في طهران. وفي هذا الإطار أمر هتلر بإرسال مجموعة من قوات الاستطلاع الخاصة إلى العاصمة الإيرانية، وهذه المعلومات حصل عليها كوزنيتسوف عندما أفشى بها أحد الضباط العاملين في جهاز المخابرات الألماني.

لم يكتف كوزنيتسوف بجمع المعلومات، وإنما قام شخصياً بالقضاء على كبار المسؤولين النازيين الذي شاركوا في عمليات قمع المواطنين المدنيين وقتلهم.. وهنا لابد من الإشارة إلى الجرأة والشجاعة التي تمتع بها العميل السوفييتي. ففي يوم من الأيام تنكر كوزنيتسوف بزي ضابط ألماني وقتل أحد المسؤولين النازيين في مكتبه الخاص. ولدى خروجه إلى الشارع شاهد العميل مجموعة من جنود العدو وهم ينظرون بتمعن تجاه النافذة التي صدر منها صوت إطلاق النار وسألوا كوزنيتسوف: ألم تسمع شيئاً؟ فأجاب نيكولاي بهدوء تام: لم أسمع شيئاً، وانسحب ببطء من المكان.

وفي حادثة أخرى اختطفت مجموعة كوزنيتسوف جنرالاً ألمانياً، ولكن الأسير تمكّن وهم في طريقهم من نزع قطعة القماش من فمه وطلب المساعدة. عند ذلك اقترب عدد من الضباط الألمان إلى المجموعة السوفييتية الذين بدؤوا ينظرون بعضهم إلى البعض الآخر متسائلين بصمت: هل فشل كل شيء؟ وهنا أسعفت كوزنيتسوف حنكته وذكاؤه وأخرج من جيبه شارة تدل على أنه يعمل لصالح الشرطة السرية، وقال بأن عناصره ألقوا القبض على جاسوس روسي متنكر بزي جنرال ألماني، وأن الأخير يتصرف بغطرسة ويصرخ دائماً ولا يعترف بذنبه، ولكن كل شيء سوف يكون على ما يرام وسوف يعترف بما اقترفت يداه. عندئذ ذهب الألمان بطريقهم وواصل العملاء السوفييت طريقهم إلى الفدائيين لإجراء تحقيق مع الجنرال الألماني الأسير.

وفي ربيع عام 1944 وقع نيكولاي كوزنيتسوف ومعه اثنان من الفدائيين في كمين نصبه العدو، وبعد اشتباكات عنيفة غير متكافئة لقوا جميعهم حتفهم. على الرغم من ذلك تم العثور على رسالة للعميل نيكولاي كتب على المغلف ما يلي: (تفتح بعد موتي) وفي الرسالة كتب كوزنيتسوف قائلاً: (أنا أحب الحياة، ومازلت شاباً، ولكن إذا كان وطني بحاجة إلى التضحية، فإنني سوف أضحي بحياتي من أجله. وليعلم النازيون مدى قدرة المواطن الوطني الشيوعي الروسي. وليعرف المعتدي أنه من المستحيل غزو شعبنا كما هو من المستحيل إطفاء نور الشمس، ولو قدر لي أن أموت فإنني على علم بأن الوطنيين خالدون في ذاكرة شعبي).

في الخامس من شهر تشرين الثاني عام 1944 مُنح نيكولاي كوزنيتسوف لقب بطل الاتحاد السوفييتي.. يشار إلى أن إضبارته الخاصة مازالت محفوظة في أرشيف جهاز الاستخبارات الروسية، وستظل سرية حتى عام 2025. مازال هناك وقت طويل حتى نتمكن من معرفة كل الأسرار التي أحاطت بحياة هذا الإنسان الرائع.

العدد 1105 - 01/5/2024