مؤتمر جنيف: تبعات الجمود «الاضطراري» والموقف السوري تجاهه

تشير مرحلة ما بعد الجولة الثانية من مؤتمر جنيف (10-15 شباط الماضي) إلى حالة من الجمود في المساعي الدولية، وخاصة من قبل راعييها الأمريكي والروسي، ولكل حساباته، تؤثر بمجموعها بشكل أو آخر على الحالة السورية عموماً، وعلى عملية الحوار والحل السياسي المفترض للأزمة السورية، إذ إنه وخلافاً لجولتي الحوار الأولى والثانية التي جرى تحديدهما مسبقاً، فإنه لم يتم حتى تاريخه تحديد موعد أولي للجولة الثالثة أصلاً، خلافاً لسابقتيها.

ورغم إدراكنا لأهمية مواصلة  الحوار، بوصفه الحل الذي طالبت به سورية وجهدت مع حلفائها، من أجل عقد جلسته الأولى (على علاتها ومواقفها)، كذلك طبيعة الوفود المشاركة فيها، أو المضافة إليها (قسراً)، فإن قرار سورية الوطني بحضور الجلسة الثانية، استند إلى إدراكها لأهمية الحوار والعملية السياسية، بديلاً لاستمرار نزيف الدم السوري وتدمير بنى الدولة ومؤسساتها الوطنية والفردية وتبعاتها الكارثية.

في الوقت الذي حاول فيه، ومايزال، الطرف المسمى (معارضة) أو ما يمثل جزءاً صغيراً منها، إلى إعاقة الحوار وتعطيله، أو المماطلة في التعاطي مع قضاياه الرئيسية المتمثلة في وقف العنف والتخريب والتدخل الخارجي في الشؤون السيادية السورية، ومشاركته (الاضطرارية) في الجلسة الأولى ثم الثانية أيضاً.

ورغم إدراكنا للمشاكل الجارية المناطقية والدولية الأخرى، وبضمنها أحداث أوكرانيا مؤخراً، وكذلك فنزويلا، والعديد من الإشكاليات التي يعانيها عالمنا، وانعكاساتها على شبكة العلاقات الدولية، وبضمنها التأثير على المواقف والجهود المطلوبة تجاه الأزمة السورية، وضرورة وضعها على سكة الحل السياسي، فإن تأهيل عقد الجلسة الثالثة لا يبشر بخير، ويؤشر إلى تراجع التعاطي الدولي معها. وإن كان السبب الرئيسي المعلن يتلخص في ظاهره في انتظار تقديم المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي تقريره حول جلستي حوار مؤتمر (جنيف 2) إلى مجلس الأمن الدولي وتقريراته وتقييمه لنتائجهما،كذلك في اللقاء المرتقب والمفترض بين وزيري الخارجية الروسية سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي جون كيري في جنيف، فإن الموعد الافتراضي يدور حول 10 آذار القادم للجلسة الثالثة، لم يعد قائماً زمنياً على الأقل.

وبانتظار تحديد موعد الجلسة الثالثة للمؤتمر، التي أعلنت سورية سلفاً موافقتها على مواصلة المشاركة في أعمالها، فإن الكثير من التطورات والمتغيرات تتواصل. ونشير هنا خصوصاً إلى عودة ممثلي المجلس الوطني (غالبتيهم من حركة الإخوان المسلمين) إلى صفوف ما يسمى ب(الائتلاف) المعارض، تأكيداً منهم على فشل مؤتمر (جنيف 2) وعملية الحوار والحل السياسي، ويصفون ذلك بأنه انتصار لرؤيتهم، رغم الأزمة التي يعيشها (الائتلاف) من جهة، واستمرار التعارض والخلاف الحاد والجدي مع أطراف المعارضات الوطنية الداخلية والخارجية من جهة ثانية.

في الوقت الذي تشهد فيه التطورات الميدانية، تواصلاً للنجاحات الهامة التي يحققها الجيش العربي السوري ولجان الدفاع الوطني، واندحاراً للعصابات المسلحة التكفيرية- الجهادية في الكثير من المواقع وليس آخرها معركة العتيبة، وسقوط مئات القتلى من الأصوليين- المترافقة مع تشديد الخناق على المعقل الرئيسي لهذه العصابات في مدينة يبرود الاستراتيجية على جبهة القلمون والحدود اللبنانية- السورية عموماً، خطوة نحو نصر سوري جديد يعيد للذاكرة معركة القصير- حمص الهامة والمفصلية.

وفي الوقت الذي يستنجد فيه أحمد الجربا زعيم ما يسمى ب(الائتلاف) أو قسم منه على الأصح، في الأردن، بالأمريكان، ويجري اجتماعات مع مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، حول فتح الجبهة الجنوبية لأهميتها وقربها من العاصمة، بعد الانتكاسات المتتابعة على الجبهة الشمالية، وبخاصة منطقة حلب وريفها، وتتواصل فيه النجاحات الميدانية العسكرية الوطنية من جهة وعملية المصالحات المحلية في العديد من المناطق السورية، وبخاصة ريف دمشق وأرياف المناطق الأخرى (رغم العديد من الملاحظات تجاهها راهناً).

وتشير الحالة الوطنية السورية، وما يرافقها من مسيرات جماهيرية في غالبية المناطق والمحافظات المؤيدة لسورية (دولة وكياناً ونهجاً)، والمصرة على الحوار والحل السياسي المناطقي بوصفه الخطوة الأساسية في الحل السوري- السوري إلى يأس متزايد  لدى المواطنين السوريين الذين احتضن بعضهم، لأسباب مختلفة، وخاصة في بداية الأزمة، دعاة (التغيير والإصلاح والديمقراطية.. الخ) ولاحقاً المجموعات المسلحة، التي أكدت الوقائع حقيقتها وطابعها ونهجها الإرهابي التكفيري الأحادي- معي أو ضدي- شعار الرئيس الأمريكي بوش الابن في حربه ضد (الإرهاب الدولي) الذي صنعته الإدارة الأمريكية المتتابعة.

كما تشير الحالة الراهنة السورية أيضاً إلى مظاهرات معادية لهذه المجموعات الأصولية في الأماكن التي لم تبسط الدولة سلطانها عليها بعد، ورفضها لقوانين العصور الوسطى والحجرية، والإجراءات التي تمارس بحق المواطنين في هذه المناطق، وليس آخرها فرض الجزية على المسيحيين في مدينة الرقة مثلاً، والاقتتال الدموي بين فصائلها المسلحة ومجموعاتها الإرهابية أيضاً.

هذا في الوقت الذي ترفع فيه المسيرات السورية، في الغالبية الساحقة من المحافظات، شعارات الوحدة الوطنية والحل السياسي، ورفض استمرار الأزمة والصراع وتدمير البلاد وبناها التحتية ومؤسساتها الوطنية والفردية أيضاً، ولهذا أهمية ومدلولاته العميقة شعبياً أولاً.. وتعبيراً عن قرف الناس من استمرار الأزمة السورية وتبعاتها على الوطن والمواطنين من جهة، وعلى استمرار إشغال سورية بقضاياها الداخلية على حساب دورها الوطني والقومي والإقليمي من جهة ثانية.

ورغم الجمود (الاضطراري) المؤقت برأينا، ولهذا أسبابه السورية الداخلية (دولة ومعارضة) والدولية أيضاً، فإن حوار السوريين الداخلي والمصالحات الوطنية (على علاتها ونواقصها المؤقتة والمفهومة راهناً)، يتطلب منا مواصلة التمسك بنهج الحوار والحل السياسي للأزمة وتهيئة الأجواء لهذا الاستحقاق الوطني الكبير الذي يعلو فوق النواقص والثغرات، وأن يدفع بالحريصين على سورية (دولة وكياناً) إلى مواصلة الجهود وعدم إطالة هذا الجمود في المساعي الدولية (الاضطرارية أو الإقرارية) لحل الأزمة السورية وتداعياتها التي لامست الجوار السوري جميعه، والمهيأة منطقياً للانتقال إلى مساحات أخرى، اعتقدت سابقاً أن بإمكانها تجنبها، وتقرّ راهناً بخطورة استمرار الأزمة السورية، ثالثاً ضرورة إغلاق ملفها، وهذا ماطرحته سورية مبكراً، وتؤكده التطورات الجارية في سورية ومحيطها في الحد الأدنى أيضاً، وباتت تدركه وتقرّ به علانية الدولُ التي دعمت هذه المجموعات التكفيرية تحت لافتات ساذجة وكاذبة ومنافقة عنوانها (الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.. إلخ) وتجهد حالياً لدرء مخاطرها على بلدانها وعلى المنطقة عموماً أيضاً، وهذا ما يتطلب الإسراع في عقد الجلسة الثالثة لمؤتمر (جنيف 2) استكمالاً لإظهار نوايا سورية الوطنية الساعية نحو الحل السياسي، وتأكيداً عملياً لحقيقة الأهداف الحقيقية لما يسمى ب(المعارضات) وبخاصة المرتبطة منها وتبعاتها سورياً ودولياً أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024