رحلة علم… بين المنطق والموروث

كم كانت الفرحة عارمةً حينما تخرجت من الجامعة، ها هي أخيراً حصلت على الشهادة التي لطالما حلمت بها، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل ما زاد الفرحة، أنها نتيجة تفوقها، حصلت على الوظيفة التي طمحت لها، مدرسةً في الجامعة، أي أنها في خضم العملية التعليمية وبتجددٍ دائمٍ لكونها ستواكب الأجيال القادمة، تمنحها من الخبرة والمعرفة ما هي بحاجة إليه، ما يجعل هذه الأجيال قادرةً على النهوض بالمجتمع لكونها الشريحة الأكثر مقدرةً على العطاء والتطوير.

ولم يتوقف بها الأمر عند التدريس فقد اشتغلت على ذاتها وعملت على تطوير علمها، فأصبح منهجها العلمي مثالاً يحتذى، وصار اسمها يتردد في أوساط العلماء والباحثين، حتى أنها تلقت عدة دعوات لحضور مؤتمراتٍ عالميةً… وعلى أثر ذلك، عُرض عليها عدة عقود في أرقى الجامعات ومراكز الأبحاث..

وبحكم تخصصها بالفيزياء، فقد كان لديها نمطية تفكير مختلفة عما هو سائد في المجتمع، لأن العلم هو معيارها الأول في مناقشة أيما موضوع، فبالعلم نستطيع إدراك ومعرفة أسرار الحياة من خلال مبدأ السبب والنتيجة، هذا المبدأ الذي به استطاعت التعامل مع معظم أمور حياتها، وبالتالي كانت مميزةً عن أقرانها من أبناء وبنات جيلها، وأكثر ما كان يستفزها، طرق التفكير البسيطة التي تعتمد على المفاهيم السائدة في المجتمع، والتي تستند في غالبيتها إلى الغيبيات وعدم إعمال العقل، فكل ما يصيبنا مُقدّر علينا ومكتوب.

حاولت أن تكون قريبة من طلابها لتتمكن من بث روح التمرد على هذه المفاهيم من خلال العلم، وإثبات الحقائق الواحدة تلو الأخرى، ولم تكن لتيأس إن صادفها أحد طلابها يجادلها في أفكارها، بل كانت دوماً مستعدة لإيضاح التناقض في المفاهيم وتوضيح ماهيتها.. الحق والواجب، الشجاعة والخوف، المفاهيم الدينية المعمول بها منذ آلاف الأعوام والتي يجري استخدام التطور التكنولوجي والمعرفي لزيادة رقعة انتشارها وتوسيعها، والتي في واقع الأمر تعتبر التشريع الأساسي للمجتمع والدولة، وللفكر المجتمعي، وتعمل على إيقاف العقل عن العمل ومحاولة التطور نحو الأمام في ألفيةٍ تطورت فيها معظم الدول، وكان أحد أهم عوامل تطورها فصل الدين عن السياسة والقانون، وعن بنية التفكير المجتمعية. هكذا، وعلى مدار أعوام، مضت في طريقها، البحث تلو البحث، والنقاش تلو الآخر.

إلى أن تعرضت ذات يوم لأحد المواقف الذي جعلها تتعامل معه بطريقة مختلفة. فقد أصابها مرضٌ عضال، وجعلها طريحة الفراش عدة سنوات.

طبعاً خلال هذه السنوات لم يتخلَّ عنها طلابها الذين بات معظمهم أصدقاء لها، لا بل شكلت لهم الرمز الذي يحذون ليكونوا مثله. وبعد عدة محاولات للعلاج، وفي كل مرة لم يكن للعلاج أي صدى في جسمها، باتت تشعر بالإحباط، فما كان منها إلا أن ذهبت مع إحدى جاراتها في مشوارٍ، قضت الجارة أياماً بلياليها تقنعها به في سنوات مرضها الأولى.

ذهبتا إلى الشيخ فلان، الذي يفك الطلاسم ويداوي المرضى ويشفي القلوب البائسة!

نعم ذهبت، وكلها أملٌ وقناعةُ بأن العلاج الشافي عند الشيخ.

ولم تتوقف عند هذا الحد، بل نذرت للرب أضحيةً إن هي تعافت من مرضها..

لم يصدق أصدقاؤها وطلابها ما رأته أعينهم وما سمعته آذانهم، وهي تصف لهم مدى ارتياحها الداخلي للشيخ فلان.. بل إن بعضهم ابتعدوا عنها كلياً، فقد شعروا بالخذلان الحقيقي لما آل إليه حال معلمتهم ومثلهم الأعلى، لقد انتشت الجارة وافتخرت بين جاراتها الأخريات بأنها هي من أقنعتها بالموضوع… وفي زيارة أحد الأصدقاء لها، وقد صُعق تماماً مما سمعه ورآه، صرخ بها وهي تحاول إقناعه بصحة ما فعلته وصوابيته قائلاً: أين هو المنطق الذي دئبتِ عليه أعواماً؟، أين هو علمك ووعيك وأين هي أبحاثك؟ وكيف استطعتِ أن تتخلي بهذه السهولة عن أفكارك ومبادئك وطريقة تفكيرك؟ ولماذا فعلتِ هذا بنا؟

بعد عدة أشهر، تحسنت حالتها الصحية بعض الشيء، فما كان منها إلا أن أسرعت بطلب جارتها، بغرض إيفاء النذر الذي نذرته قرباناً للإله الكريم الذي عافاها وحسن من حالتها.

العدد 1105 - 01/5/2024