ملتقيات دمشق الثقافية واستراتيجيات الثقافة

 إذا اعتبرنا أن ملتقيات دمشق الثقافية وما تتوسل أن تشغله من فراغ مفترض في الساحة الثقافية السورية، تنطوي على ظاهرة إيجابية في العموم، فإنها لا تخلو من مفارقات الحماسة والارتجال والاحتفاء بالكم على حساب النوع، لكن ذلك لا يمنع على الإطلاق من رؤية نصف الكأس الملآن، أي أن ثمة حراكاً ثقافياً ينبغي استثماره على غير مستوى.

ومن اللافت أن ذلك الحراك الذي شكلته ملتقيات دمشق في تجلياته الأكثر من ثقافية، بمعنى الأبعاد الاجتماعية، لن يتخفف من أسئلة ضرورية وحاسمة لجهة الفعل الثقافي في استراتيجيته البعيدة، وفي أدائه فردياً كان أم جماعياً. وبطبيعة الحال الأسئلة التي تُعاين تلك الأنماط المنتجة للثقافة على مستوى الأجناس الأدبية المختلفة، ستظل في سؤالين مهمين على مستوى القيمة والمعيار، وليس بفعل ارتدادات بعينها للأزمة. ومعروف أن الملتقيات تأتي استئنافاً لتقاليد ثقافية قديمة، كان أبرزها في العقود  الماضية ظاهرة الصالونات الأدبية، التي واكبها كبار الكتاب والمثقفين والمبدعين، ومع تغير الأدوار وتغير وظائف الثقافة أصبحت الملتقيات في زمننا أكثر من ظاهرة ينبغي النظر إليها بهدوء وليس بتسرع، على الرغم من أنها تحاكي تجليات مجتمع في زمن الحرب، يسعى للتعبير بأدوات مختلفة عما شكلته الحرب في وعيه أولاً، وفي ممارسته الاجتماعية الثقافية.

والقول بوحدة هذه الملتقيات لا ينفي فرادة بعضها، ففي التعدد ثراء، وفي الأداء الفردي خصوصية لا تكتمل إلا بنسيج الكل الذي تتنوع رؤاه، لكنها في المحصلة تذهب لصوغ معنى الوطن، وفي أدل معانيه ثقافة المقاومة وفكر المقاومة، ولكن ما هي الآليات؟ وكيف تستثمر الحوافز لصياغة الوعي الجديد والمختلف؟

 ليست المسألة مختزلة بقصيدة هنا أو هناك، أو قصة تبدو انعكاساً فحسب، بل بمدى ما يتراكم في الوعي الجمعي، ومدى ما يتكامل في أدوار المثقف الفاعل، ويشي بغير وظيفة له هي وظيفة بناء الإنسان، بوساطة قوة الروح وقوة الكلمة في زمن الحرب، وتعبير صورها، ليكون الإبداع في هذا السياق دالاً جمعياً فضلاً عن أنه خاصية فردية. والقول بأن ثمة فراغ في الساحة الثقافية، لن يكتمل إلا بوحدة الفكر لا بتجزئته، وانسجام الغايات لا تباعدها، بعيداً عن الارتدادات السلبية التي جعلت الثقافة في معنى الاستهلاك، وجعلت بعض الإبداع وهماً، وأكثر تلبس المبدع في أنه سيكتب الآن مستعجلاً دون أن يفضي إبداعه إلى تراكم معرفي يحيل إلى اتساق الثقافة نظريةً وممارسةً وفكرةً وسلوكاً وأداءً وإبداعاً.

 من هنا نقرأ ملامح خريطة ثقافية أشبه بخريطة الطريق إلى وعي جديد يتجاوز ويمتلك القدرة على المغايرة ويراكم في مسار تجاربه، حتى نقف على أصوات جديرة بالاحتفاء في مشهدنا الثقافي. وبمعنى آخر فإن التشاركية ما بين المؤسسات المعنية والملتقيات هي ناتج حضاري فاعل في مسيرة الثقافة، لا على المستوى الراهن فقط، بل على مستوى صوغ سياسات ثقافية بعيدة المدى، تأخذ أبعادها الاستراتيجية استحقاقات تعود بالناتج المعرفي على الجمهور وعلى الذائقة وعلى التاريخ الأدبي.

 في اجتماع ملتقيات دمشق على وحدة الرأي خطوة إيجابية، ولكن!.

واستئنافاً لتلك الأسئلة وغيرها في مساءلة الناتج الثقافي من ملتقى بعينه أو سواه من ملتقيات أخرى، تعمل لإنقاذ اللحظة الثقافية، نقول إن الفرادة مطلب، لكن التعبير الجمعي هو غاية، أي إننا إذا أردنا أن ننتج في الثقافة، لا نستهلك فحسب -مع الأخذ بعين الاعتبار جملة التحديات القديمة الجديدة الملقاة على الثقافة-، فعلينا الارتقاء بتصورات عملية ليس غايتها إنقاذ الثقافة كما يتبدى، وبما تعنيه الثقافة من نسق مجتمعي، وتعبيرات مختلفة في ميادين مختلفة، بل إنقاذ إنسان الثقافة المتعطش دوماً للمعرفة وفي ذروة الاحتدام الحضاري، ليشتق تعبيره المحايث لأزمنته والمستبطن لأزمنة قادمة، فأي جهد في هذا الاتجاه سوف يصب في المحصلة في حياة ثقافية أقرب إلى أن تكون صحيحة ومعافاة، منها إلى كمال لا يكتمل وإلى حقيقة تظل منشودة أبداً.

فحوار الأجيال المبدعة هو ما تتوسله تلك الفعاليات، والتي لن تبقى أسيرة الحماسة والارتجال وحدهما، وأن يكون النيئ صنو المطبوخ، بل إنتاجاً معرفياً تحكمه صيرورات إبداعية ولا تحكمه لحظة عابرة سريعة وهشة وقابلة للنسيان، وبهذا المعنى ليس ثمة تقعيد للحراك، بقدر ما هو بحث عن تأصيله حتى ترتقي أفعال الثقافة وأدواتها في مشهدنا الثقافي السوري، وتتجاوز سلبيات هنا وثغرات هناك، وتأصيلاً لإبداع يليق بالحياة.

العدد 1104 - 24/4/2024