من الصحافة العربية العدد 660

شكراً نتنياهو

لم يصدق قائد إسرائيلي مع العرب بقدر صدق بنيامين نتنياهو، ولم يخدمهم قائد إسرائيلي سياسياً بقدر ما خدمهم نتنياهو. ولو كان للعرب أن يختاروا رجل العام لربما اختاروه. لعله بقراره الغبي الأخير ضَرْبَ مجموعة من شباب حزب الله وجنرال إيراني من الحرس الثوري في الجولان، قدّم هدية سياسية واستراتيجية هائلة لإيران وسورية والحزب.

نتنياهو صادق مع العرب لأنه، منذ وضع كتابه (مكان بين الأمم)، وهو ينفّذ حرفياً أفكاره. مختصرها، كما أوضحها هو نفسه: (لا دولة فلسطينية. لا قدس. لا مجال أمام الفلسطيني سوى القبول بدولة يهودية. الأردن وطن بديل. لا عودة إلى حدود 1967. العرب لا يفهمون سوى بالقوة). ربما على العرب اليوم أن يعودوا إلى قراءة هذا الكتاب بإمعان.

نتنياهو صادق أيضاً لأنه لا يزال يعتبر إيران أولاً، ثم سورية وحزب الله، في طليعة أعدائه. أثبت بعدوانه الأخير في الجولان أنه لن يقبل مطلقاً أن تمضي أمريكا وخلفها الغرب في توقيع اتفاق نووي. ها هو، إذاً، ينفّذ ما وعد به دائماً من أنه سيتصرف وحده حتى ولو لم تقبل أمريكا.

صِدقُ نتنياهو يخدم محور المقاومة خصوصاً في هذه المرحلة المفصلية. فهو أعاد شيئاً من التعاطف العربي مع حزب الله، وبعث شيئاً من الشعور القومي عند السوريين، وأكد مقولة المحور الممتد من موسكو إلى طهران فسورية ولبنان بأن لإسرائيل مصلحة كبيرة في تدمير سورية.

وصدقه خدم إيران أيضاً لأنه سلَّمها مفتاحاً مهماً في التفاوض. للمرء مثلاً أن يتخيل الآن المبعوثين الأمريكيين يهرعون إلى طهران آملين بإقناعها عدم الرد. والقيادة الإيرانية ذات الخبرة الواسعة والقديمة في فنون التفاوض، ستحرق أعصاب الأمريكيين وإسرائيل بعدم الإفصاح عما ستفعل. هي كانت مهّدت لهذا الهلع الغربي والإسرائيلي، بتصريح من قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري هدّد فيه إسرائيل بـ (صاعقة مدمرة).

سعى نتنياهو للإفادة من الهجمات التي تعرضت لها مجلة (شارلي إيبدو) ومتجر يهودي في فرنسا، فجاء يتصدر طليعة المتظاهرين ضد الإرهاب. لعله كان يخفي يده في جيبه لأن دماء أبرياء غزة كانت لا تزال عليها. حاول أن يعيد تلك الصورة البايخة التي درجت الدعاية الصهيونية على نشرها حول (إسرائيل الضحية). الآن تُصدر الأمم المتحدة تصريحاً واضحاً بأن إسرائيل هي المعتدية في الجولان وهي التي تخرق القرارات الدولية.

وصِدقُ نتنياهو سمح لحزب الله بالتمتع الآن بذريعة ممتازة للرد حين يشاء وأينما أراد. هذا كان قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على الجولان صعباً، نظراً لانقسام اللبنانيين حول الأمر ومعاداة قسم منهم للحزب ولمفهوم المقاومة، خصوصا بعد اشتراك الحزب بالحرب في سورية. وصِدقُ نتنياهو، أيضاً وأيضاً، جعل (حمائم) السلام والتفاوض الفلسطينيين ييأسون منه، فيتحدّون تهديداته ويذهبون إلى مجلس الأمن للاعتراف بدولتهم، ثم إلى محكمة الجنايات الدولية. وصلت الحمائم إلى هذه الخلاصة بعد أن نتف نتنياهو ريشها واحدة بعد الأخرى، ولم يقدّم لها سوى مزيد من المستوطنات في مكان، وتدمير آلاف البيوت على أهلها في غزة.

وصِدقُ نتنياهو، أخيراً، كشف للمجتمع الإسرائيلي أن الرجل مستعد للتحالف مع الشيطان، وليس فقط مع غلاة التطرف والتشدد الديني والعنصرية في بلاده للبقاء في السلطة. الآن بقاؤه أو عدمه صار بيد إيران وحزب الله.

فهل ثمة من يستحق الشكر على توضيح الصورة أكثر من نتنياهو؟ يوماً ما قد تفهم إسرائيل أن الشبان في عمر الورود، كجهاد مغنية، لا يستشهدون حباً بالموت، بل لأن وجوههم النضرة وأياديهم الطرية تحب الحياة… بكرامة.

سامي كليب

(الأخبار)، 22/5/2015

 

أمهات عند الجبهات: (لنحيا معاً)

عند الجبهات السورية المشتعلة، غير عابئة بالرصاص وبالقذائف، تتفادى أم خليل المصائد التي ينصبها الموت في جميع الاتجاهات. تحمل طناجر تفوح منها روائح المأكولات والحلويات التي لا تجيد طهوها إلا الأمهات؛ تنقلها إلى الجنود محملة برائحة البيوت السورية وبابتسامات الأمهات وبدعواتهن لأبنائهن. حالما يراها العسكر يصيحون بصوت واحد: جاءت أم الجنود!

لم تكن سهام الشبل، ابنة مدينة جبلة الساحلية، لتتخيل في أكثر أحلامها جموحاً أن أيامها الرتيبة بين وظيفتها الحكومية كمهندسة زراعية وواجباتها المنزلية الروتينية كأم لطفلين ستنقلب فجأة لتمضي جل أوقاتها على الجبهات السورية الساخنة.

الخنساء، خولة بنت الأزور، جميلة بوحيرد، وحتى الأم تيريزا، كلها ألقاب أطلقها جنود سوريون على أم خليل. آخر الألقاب، وأكثرها شهرة، هو (أم الجنود) الذي تعتز به وتعده تكريماً حقيقياً لها. جميع الضباط والعساكر ينادونها (أمي)، برغم أن سهام الشبل لم تتجاوز الرابعة والأربعين من العمر.

هي قصة امرأة سورية اختارت وجهتها في مسار الأحداث المشتعلة منذ أعوام، لكن، كيف انطلقت أم خليل بتلك المهمة الخطيرة المتطلبة شجاعة كبيرة؟ تقول في حديثها إلى (الأخبار) إن هذا العمل الجبار بدأ (بسيطاً وعفوياً مع بداية الأحداث… ومع انتشار حواجز الجيش السوري في مدينتها جبلة). صارت تطبخ وتوزع الطعام على الحواجز القريبة من بيتها، ويوماً تلو الآخر باتت توزع الطبخ على الحواجز في جميع أنحاء المدينة. ومع ازدياد حجم العمل بدأت جاراتها يساعدنها على الطبخ والإعداد، فوصل توزيع الطعام إلى حواجز مدينة بانياس.

تشرح أم خليل: (العمل بات أضخم من مطبخي الصغير، وكان لا بد من سقف جديد للعمل تحته. من هنا بدأت فكرة (تجمّع لنحيا معاً) الذي يضم أمهات شهداء وجنود ومفقودين). تتابع: (من التجمّع انطلقت حملة الأم السورية لطهو الطعام لجنود الجيش السوري، وسرعان ما حظيت الفكرة بدعم قاعدة شعبية كبيرة، وبدأ العمل على قدم وساق في مطابخ أمهات الجنود التي توزعت بين اللاذقية ومحردة وعين الكروم وسلحب).

ترى أم خليل أن الهدف من الفكرة (ليس الطعام بحد ذاته، بل إيصال الدفء إلى الجنود المحرومين رؤية أمهاتهم). تحاول شرح الصورة بطريقة أوضح، فتقول: (نوصل اللقمة الحنونة التي لا يأكلها الجندي إلا من يد أمه، ومن خلال هذه اللقمة استطعنا أن نوجد الأم على الجبهة، وأن نوصل عاطفتها إلى الجنود).

وبينما تُفتح يومياً جبهات جديدة للموت، لا تخشى (أم الجنود) الخوض في مغامرات إيصال الطعام إلى أبنائها. بل هي تذهب أبعد من ذلك، لتدوّن في مذكرتها تواريخ أعياد ميلاد الجنود والاحتياجات الشخصية لكل منهم.

من المواقف التي لا تنساها، لحظة وصولها إلى مطار أبو الظهور العسكري في ريف إدلب، حين قام طاقم من المطار بحمل درج الطائرة الذي تقف عليه. تروي ذلك المشهد بالقول: (لم أرَ حينها إلا بريقاً قوياً يصدر من عيون الجنود التي كانت تلمع. أدهشهم حضوري إلى المطار الذي لم يصل إليه أي مدني غيري).

ثكلى هي اليوم هذه المرأة التي تقدم الكثير. يومياً يرحل لها ابن كانت تعد له احتياجاته ولوازمه، وكتبت اسمه على ملصق وضعته على كيس خاص به. كيس لن يصله، أبداً. هو موت يتجدد كل يوم وتقابله (أم الجنود) بصلابة نادرة. (أحياناً أكون قد ابتعدت خطوات قليلة عن أحد الجنود لأصعق بسقوطه شهيداً… أبكي قليلاً، ثم أواصل عملي… أقسمت ألا أتوقف عن المهمة التي اختارها لي الله، وباركني بها، إلا بالموت أو انتهاء الحرب).

ريمة راعي

(الأخبار)، 23/1/2015

العدد 1105 - 01/5/2024