بالتعليم نصنع الإنسان والمجتمع

 كان العلم وما زال من أهم حاجات الإنسان الضرورية، نظراً لما يهبه للحياة من غنىً وتنوع في جميع اتجاهات المعرفة، وذلك من أجل الارتقاء بالمدارك إلى حدود تتناسب وتطور العلوم بتفرعاتها كافة. يخضع التعليم والتعلّم في كل المجتمعات لشروط أساسية كي يصل إلى غاياته في خدمة الإنسانية، من أهم هذه الشروط الاستعداد النفسي والعقلي، وكذلك تنمية قابلية التلقي والاستيعاب لدى الطالب كي يكون بمقدوره البحث والتنقيب عمّا يرفد ما يتلقاه من معارف وعلوم خلال مختلف المراحل الدراسية والأكاديمية.

لذا، عملت الدول المتحضّرة على الارتقاء المستمر بالإنسان من خلال الارتقاء بأنماط التعليم ووسائله، وذلك من أجل خلق جيل واعٍ حرّ في تفكيره وطريقة تعاطيه مع العلم والمعلومة، كي يكون قادراً على استيعاب ما يتلقاه من معلومات، ليكون مستقبلاً قادراً على الإبداع والعطاء. وانطلاقاً من ذلك، فقد تنوّعت أساليب التعليم ووسائله واتجاهاته، كما أصبح في مرحلة الطفولة المبكّرة- ما قبل المدرسة- ضرورة ملحّة يقتضيها تطور المجتمع والفرد على حدٍّ سواء.

لذا، يتمّ بين فترة وأخرى تحديث المناهل والمناهج التعليمية وتجديدها بما يتوافق والتطور التقني والعلمي، والاكتشافات والاختراعات العلمية الحديثة، وذلك من أجل خلق جيل يواكب تلقائياً مقتضيات هذا التطور، إذ لم يعد ممكناً السير في دروب الحياة المعاصرة بأساليب ومعلومات قديمة عفا عليها الزمن. تهدف المناهج إلى اكتشاف ميول الطالب ورغباته ومواهبه، لتحديد مساره ونمط التعليم الذي يمكن أن يبرع فيه، بحيث تذلّل الصعوبات والعراقيل التي يمكن أن تكون عائقاً في طريق اكتسابه لمختلف أنواع العلوم.

غير أننا نجد التعليم في مجتمعاتنا، ما زال إلى حدٍّ ما يمتطي عربات الماضي المتعثّرة، معتمداً على الحشو العشوائي في بعضه، والتلقين الإلزامي الأصم البعيد عن أيّة مهارات، سواء للمعلّم أو الطالب، لاسيما في المراحل ما قبل التعليم الجامعي، مما يُفقد الطالب أيّة دافعية أو رغبة للاستمرار في الدراسة بالشكل المطلوب أو المرغوب، لذا نراه متعثّراً ما بين رغبته الدفينة في تحصيل علمي يليق بأحلامه وطموحاته، وأساليب ووسائل ومناهج تعرقل وتقيّد تلك الرغبات والأحلام.

ففي العقود الأخيرة خاصةً، صار التعليم لدينا، لاسيما في ظل الخصخصة، يأخذ اتجاهات مختلفة لا تخدم الهدف منه على الإطلاق، ما قاد إلى انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية، مما قلل من شأن الصروح التعليمية، مثلما قلل من شأن المعلم والمدرّس فيها بآنٍ معاً، كما أرخت بظلالها السلبية على مستوى التعليم في المدارس التي تحوّلت إلى مجمعات طلابية الهدف منها فقط التقدّم للامتحانات نهاية العام الدراسي، بعد أن تراجع أداء الكثير من المدرسين في مدارسهم مقابل ذيوع صيتهم في مجال (الخصوصي). كما أن تكاليفها في الوقت ذاته ألقت بثقلها على الأهل بما يفوق قدراتهم المادية، لما تتطلبه تلك الدروس من مبالغ حلّقت عالياً خاصةً أثناء الأيام والساعات الأخيرة التي تسبق الامتحان.

وتأتي بعد ذلك مرحلة القبول والتعليم الجامعي القائمة منذ بدايتها، لا على أساليب تعتمد رغبات الطالب واهتماماته وميوله، وإنما على حاجة الكليات أو قدرتها على الاستيعاب، ومن ثم قدرة الجامعات ككل، مما يترك في كل عام أعداداً ليست بالقليلة خارج المظلّة الجامعية. وقد تفاقم هذا الوضع بعد إفساح المجال أمام الجامعات الخاصة التي اجتذبت بإمكاناتها المادية المتميّزة والوفيرة خيرة الكفاءات والمهارات من الأكاديميين الذين كانوا في الجامعات الحكومية، رغم أنها تأخذ الطلاب الذين لم تؤهلهم درجاتهم للدخول إلى الجامعات الحكومية، وهذا ما أدى بالطبع إلى خلو الجامعات الحكومية تقريباً أو ندرة كوادرها التعليمية المتميّزة، التي كانت إلى حدٍّ ما تُعطي للجامعات هيبتها ومكانتها العلمية. مما ترك الجامعات الحكومية تعجُّ بالعديد من المشاكل والنقص والممارسات غير المهنية أو العلمية، ليس أقلها ضعف الاعتماد على الكتاب الجامعي، وعدم التقيّد المهني والعلمي بأساليب المنهج العلمي ووسائله أثناء إعداد حلقات البحث ومشاريع التخرّج التي تُعطي فكرة واضحة عن مدى استيعاب الطالب وفهمه للمادة التي يدرسها أو يتخصص بها. يُضاف إلى ذلك، عدم الاهتمام الجدي والعملي بمواهب بعض الطلبة وما يحاولون تقديمه من إبداعات، وذلك بإهمال مسألة البحث العلمي وعدم توفير الإمكانات المادية اللازمة لها، التي يعجز الكثير من الطلبة عن متطلباتها رغم أنها تقع في صميم اهتمام الجامعات واختصاصها.

 وتأتي الطامة الكبرى في نهاية دروب الجامعة بالنسبة للخريجين الحالمين بمستقبل ينتشل بعضهم وأسرهم من قاع الفقر، أو يرتقي ببعضهم الآخر إلى وظيفة تليق بتلك الشهادة وبسنوات عمر أُهرِقَ على مقاعد الدراسة، فلا يجدون للأسف غير سراب وضياع قاتل في شوارع ومتاهات تسمع أنينهم، فالدولة تخلّت عن استثمار تلك الطاقات بتخلّيها عن الالتزام بتوظيفها، في ظل عدم وجود قطاع خاص حقيقي يقيم وزناً للكفاءات العلمية إلاّ فيما ندر، مما يُفضي بتلك الثروة الشبابية إلى مجاهل الضياع والدمار النفسي والروحي، أو الهجرة إلى أماكن تحتفي بهم وبإمكاناتهم، وتفسح المجال رحباً أمام مواهبهم وإبداعاتهم، وهذا ما يترك بلادنا في حالة من الشلل التام للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.

بالتأكيد، نحن نتحدّث هنا عن واقع ما قبل الحرب، فكيف سيكون في ظل حرب عمرها خمس سنوات جرفت في طريقها كل معالم الحياة الإنسانية والعلمية. إنه واقع خطير ومرعب نضعه برسم وزارتَي التربية والتعليم العالي، وكل الجهات الرسمية وغير الرسمية المعنية بأجيال يقع على عاتقها النهوض بالمجتمع من قاع التخلف والجهل المعرفي. 

العدد 1105 - 01/5/2024