لماذا نثقل أولادنا بالديون؟!

 ينفرد الإنسان من بين المخلوقات بالخاصية التي تمثل القابلية العقلية والنفسية للتأثر والتأثير. فإن كان الطفل منذ سن التمييز، وأقصد هنا التميز الجنسي، أي إدراك هويته (الأنثوية أو الذكرية)، التي عادة تكون ما بين الثالثة والخامسة من العمر، تبدأ لديه القابلية للتعلم والتأمل والمحاكاة، فإن الأبوين يضطلعان بالدور الأكبر والأساس في هذا المضمار الحيوي الذي تبقى آثاره أمداً طويلاً من عمر الإنسان، ويفوق دورهما الأدوار الأخرى التي تناط بالمدرسة والمجتمع والبيئة الكونية بمؤثراتها العديدة اليوم التي تنقلها لنا التكنولوجيا بخيرها وشرها، كماً ونوعاً وعمقاً.

إن الأبوين يقومان بالدور الأول والأساس في(تشكيل) شخصية الطفل، و(تكوين) أنماط سلوكه وفكره وتوجهه، إذ يعتمدان على الأسلوب المتكرر، من حيث أن الابن أو الابنة يقضيان معهما أطول زمن، ولاسيما في مرحلة النشأة المبكرة، وعليه فإن تأثيرهما التربوي إيجابًا أو سلبًا أعمق، وأثرهما أبقى.

فالعلاقة تبعاً لما تقدم بين الآباء والأولاد علاقة الأصول بالفروع، هي أقوى علاقة إنسانية، وعُراها هي أثبت عُرى، لما تحتويه من وشائج تتمثل بعلاقة النسب والدم، وعلاقة الإرث الحسي والمعنوي، فالآباء أقرب الناس إلى الأولاد، كما أن الأولاد أعز ما يحبه الإنسان فطرة وسجية، فهذه العلاقة إذاً علاقة استمداد واتساق، إذ يستمد الأبناء من آبائهم الصفات الخلقية والخَلْقية، كما يتمسكون بموروثاتهم الفكرية والعقدية، ويلاحون عنهم ويحتمون بما لهم من مكانة اجتماعية، أو مكتسبات ويشيدون بها، يفعلون ذلك بدافع الحميّة العاطفيّة، فالأبوة هي العطاء كما تراها البنوة وكما يتبادر إلى الحس.

إن افتخار الأولاد بمآثر الآباء ،وانتفاعهم بمصالح الآباء التي تحمّلهم مستقبلاً مسؤوليات عدة، كدَين مستحق ولو كان آجلاً..

يمكن القول بأن للأسرة دوراً كبيراً في رعاية الأولاد – منذ ولادتهم – وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، ليكون وراء كل شخصيّة عظيمة أبوين مربيين بأفضل تربية تكون ركائزها وعمادها الاحترام وصقل القدرات ورعايتها بالمحبة، والتدعيم المعرفي بقدر المتاح. ونافل القول أيضاً أن تتم الإشارة إلى أخطاء تربوية فادحة للأبوين من مثل:

 أ-التناقض بين أقوال الوالدين وسلوكياتهم.

ب-الانفصام في التوجه التربوي بين المدرسة والأسرة في مجتمعنا.

ج-وجود من ينوب عن الوالدين في دورهما التربوي في التنشئة الحميدة، من مثل المربيات سواء من الأقرباء، أم من الغرباء كالمربيات أو الخادمات الأجنبيات..

د- لوسائل الإعلام دورها المشوه للرّعاية الوالدية القيمية.

كما أن الفراغ وعدم الإفادة من الوقت تُعد من أخطاء التنشئة الفادحة.

يقول النبي الكريم محمد (ص): (نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس، الصِّحة والفراغ).  من كل ما تقدم فإن الدور الأساسي للأبوين في عطائهم لأبنائهم يستوجب التقدير ورد العطاء بالعطاء في المرض والسقم والكبر.. ولكن أن نورث أبناءنا مشاكلنا وأخطاء قراراتنا، فكيف لهذا الدّين أن يرده الأبناء؟!

أما أن يكون ديناً بدين يستمروا به إلى ولِدهِم، فهنا الكارثة الوطنية والعجز والإفلاس الذي لا تنفع معه القروض ولا الجمعيات الأهلية، ومن الأمثلة الصارخة التي أجدها من القرارات الخاطئة بحق الأبناء (تكريس الدروس الخصوصية والتمادي بها من قبل أولياء الأمور، بذريعة الاهتمام العلمي وتأمين مستقبل باهر للأبناء، هذا التكريس كما يستنبط منهم يولّد الأنانية في نفوس الأبناء و يُؤرشف دماغهم ببرمجة سلوكية محدودة عمادها التلقين وانتفاء الفكر النقدي والإغراق في السلبية. وكم أسمع من آباء عبارات من مثل: تراكمت علينا أعباء كثيرة بسبب الدروس الخصوصية لابننا أو ابنتنا ولم يكن/تكن على قدر المسؤولية.. ونسمع بالمقابل من الأبناء الذين عاشوا تجارب كهذه بأنهم غير ممنونين لآبائهم في شيء، بل مستنكرين لكل شيء، ونجد لسان حالهم يقول: لا شيء جيدً.. لا العلم ولا التربية لا البلد ولا الأعراف الاجتماعية.. مثل هذا التأفف كيف له أن يبني أمة أو يعيد البناء؟ كم نحن بحاجة إلى استراتيجيات عاطفية جديدة في تنشئة أبنائنا، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

استراتيجية إعادة النظر في التنشئة وقيم التنشئة بأن نمارس ونعيش القيم الشّخصية والرّوحية معهم، من غير أن نكتفي بترديدها وتوريثها من جيل إلى آخر قولاً على قول، بعيداً عن العمل بها وتكريسها سلوكاً فاعلاً، ربما لو جرى تكريسه وتغذيته، لكان في ذلك ما يعفينا من فوائد الدَّين المتراكم عبر السلاسة التّربوية في النسق العائلي والمجتمعي.

العدد 1105 - 01/5/2024