جوقة الرداءة

 ما من شك في أن الإنتاج الأدبي شديد الارتباط بمرجعيته الواقعية، مهما كان دور التخييل فيه. ليس بالضرورة، إذا كان الواقع متردياً، أن يصدر عنه أدب رديء أو إذا كان الواقع مزدهراً أن يصدر عنه أدب جيد، فالعلاقة بين الأدب والواقع ليست ميكانيكية تقوم على أساس التطابق المرآتي (زاوية الورود تساوي زاوية الانعكاس)، فكثيراً ما يتقدم الأدب على الواقع، وفي حالات ليست قليلة يتخلف عنه لأسباب موضوعية لها علاقة بمستوى الواقع نفسه وأوضاع المبدعين فيه.

العلاقة شديدة التعقيد والتداخل ولها أنظمتها وقوانينها الملموسة المشروطة بالظرف التاريخي، وهي خاضعة لشرطي الزمان والمكان وما لهما من تأثير في عملية الإنتاج الأدبي، فالذات الكاتبة لا تستطيع الهروب من آثارهما، فالمبدع متموضع في التاريخ ومسكون في الجغرافيا. الطامة الكبرى عندما تتضافر مجموعة من العوامل على تشجيع الأدب الرديء والترويج له وتسويقه، بدءاً من الكاتب وانتهاء بالناقد.

بعض (حملة الأقلام) من المبتدئين في الكتابة يستسهلونها، فيصدرون إنتاجهم على أساس مبدأ الجهد الأقل، ظناً منهم أن معرفة بسيطة بأحد الأجناس الأدبية كفيلة بجعلهم أدباء تتصدر أسماؤهم الصفحات الثقافية وتحتل واجهات المكتبات.

تكمن الخطورة عندما يذهبون إلى دور النشر فتحتفي بهم، فالغاية النهائية للناشر هي الربح المادي، بغض النظر عن القيمة الفنية للنصوص المنشورة. تطرح دور النشر مجموعات شعرية وقصصية ونصوصاً يعتقد أصحابها أنها فوق أجناسية برأيهم، ونظراً لغياب التقييم أو القراءة من الناشر تأخذهم النشوة عندما يجدون أعمالهم مطروحة في الأسواق.

الطامة الكبرى عندما يأتي دور النقد والنقاد الذين يتصدر بعضهم وسائل الإعلام المسموع والمرئي، متحدثين عن الإنتاج الأدبي، فيصدرون أحكام القيمة على النصوص مبجّلين معظّمين بأصحابها، وغالباً ما تصدر أحكامهم عن مرجعيات لا علاقة لها بالنصوص المنتجة، وبذلك تنعدم المعايير النقدية وتغيم الرؤى. غاية النقد التمييز بين الجيد والرديء في الإنتاج الأدبي، وإصدار حكم قيمة على المنتج الأدبي، ولا يتوفر ذلك إلا بتناول النصوص بأكبر قدر من الموضوعية والحيطة والحذر في إصدار الأحكام، لأن المتلقين يسترشدون بآراء النقاد، ويحتكمون إلى ذائقتهم، فكيف إذا تاهوا وضاعوا في سوق الاستهلاك؟

إذا تكاتف الكاتب والناشر والناقد وتواطؤوا بتفاهم مسبق منهم أو بالمصادفة، وصلنا إلى نتيجة خطيرة وضارة تخرّب ذائقة المتلقين وتساهم في الترويج للمنتج الأدبي الذي لا يرقى أصلاً إلى مستوى الأدب. كيف يمكن أن نتخلص من هذه الظاهرة؟

لابد من عمل جاد ودؤوب ممن يكتبون أولاً، ومن دور النشر ثانياً، ومن النقاد ثالثاً، في مواجهة صادقة وجريئة في التعامل مع الإنتاج المطروح في سوق الاستهلاك الأدبي، لرفع سويتهم، بدءاً من الكاتب برفع تأهيله المعرفي والثقافي والتأني والتروي في النشر حتى تنضج تجربته وتكتمل عدته.. أما دور النشر فعليها أن تشكل لجاناً للقراءة تقيّم الأعمال قبل صدورها ولا تسمح بإصدار ما يسيء للذائقة العامة من إنتاج رديء.

أما النقاد فعليهم أن يتصدّوا لهذه الظاهرة المخيفة بكل ما يملكون من مخزون ثقافي وذائقة سليمة وموضوعية محايدة وأبوية حنونة في إصدار الأحكام مهما كانت النتائج حتى ولو غضب بعضهم وهاجم آخرون وعنفوا أو استخفوا، فمهمة الناقد وكلمته تبقى الفيصل لأنه المخول بإصدار الأحكام النقدية، وعليه مسؤولية كبيرة في ترشيد واستهلاك الإنتاج الأدبي، وعمليات تسويقه والترويج للجيد منه، ومواجهة الرديء، مهما غلا الثمن، لأن الوفاء للحقيقة أثمن ما يجب أن يحافظ عليه الناقد، والجرأة هي سلاحه الأمضى، فإذا خسرهما ما فائدة معرفته وثقافته ومهاراته اللفظية؟

العدد 1105 - 01/5/2024