انتشار ثقافة العولمة والهوية.. الثقافة الاستهلاكية (1)

ازدادت حدة الاهتمام بموضوع الهوية منذ العقد الأخير من القرن الماضي بطريقة غير مسبوقة، لا يختلف اثنان على أن هذا الموضوع أصبح يفرض نفسه فرضاً على واقع العديد من المجتمعات ومنها مجتمعنا، فمع الانفتاح الكبير بين الشعوب، وتطور وسائل الاتصالات ونقل المعلومات، والتوسع الاقتصادي الكبير للشركات الغربية على وجه الخصوص، في كل أنحاء المعمورة، دشن العالم مرحلة جديدة تزامن الاهتمام بها وإشباعها بحثاً مع تناول موضوع الهوية والثقافة الوطنية ألا وهي مرحلة العولمة، تلك الظاهرة التي لا تزال آخذة بالتبلور، وإن اتضحت بعض الجوانب منها، إلا أنها لم تأخذ مداها الكامل بعد.

فمع الحديث عن العولمة، وانتشار بعض مظاهرها في العالم، انتشرت معها ثقافة جديدة أثرت في شعوب الكثير من الدول، خصوصاً الأجيال الجديدة التي باتت تتأثر إيجابياً، وبشكل سريع، مع هذه المؤثرات الثقافية، فأصبح الفارق بينها وبين الأجيال التي سبقتها واضحاً للعيان، خصوصاً من حيث المفاهيم والسلوك والتطلعات التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، وإلى آخر ذلك من أمور.. في هذه المقالة سنسلط الضوء على هذه الثقافة ومصادرها، والأسباب التي دفعت بها لتتبلور بصيغتها الحالية، ومن ثم سرعة انتشارها الكبير في بقاع شتى من العالم.

قبل الحديث عن الجوانب التي ظهرت من خلالها الثقافية الاستهلاكية، لابد في البدء من الإشارة إلى نقطتين مهمتين: الأولى هي هل هذه الثقافة تشكل ثقافة حقيقية بمعناها التقليدي؟ أي هل هناك قيم لها أصالتها تعكس روح المجموع بين أفراد المجتمع، ومن ثم هويته؟ وهل تعكس نفسها بفنون وإبداعات ذات مستوى مميز ورصين؟ والإجابة عن تلك التساؤلات هو بالنفي، فالثقافة الاستهلاكية ليست ثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم واعتقادات وفنون، بل تُعنى بالدرجة الأولى بالجوانب الغريزية بالإنسان، وبالمظاهر والكماليات الشكلية التي تحدد قيمة الإنسان بما يقتنيه من أشياء مادية أو مال، وحولت جميع مظاهر الثقافة إلى سلعة تجارية.

 أما النقطة الثانية، وهي استكمال لما سبقها، فهذه الثقافة لا تمثل بعداً إيديولوجياً، أي أنها ليست إيديولوجيا، أو فكراً له رؤية للحياة، وقيم واعتقادات روحية يتوحد عليها الناس، إن الناس غالباً ما يتوحدون بناء على الاعتقاد، أو الإيديولوجيا أو الأفكار العادية، وهذه الأمور لا تتوافر في هذه الثقافة، وعلى الرغم من أن ذلك يمثل جانباً سلبياً، فإنه ساهم في انتشارها بشكل كبير، فبما أنها لا تعتمد على معتقد فكري أو إيديولوجي يحل محل اعتقادات الشعوب، وخصوصاً شعوب العالم الثالث، مما قد ينتج تصادماً بين معتقدات الأفراد واعتقادات قادمة من الخارج، فقد استطاعت أن تخترق بقيمها الاستهلاكية مختلف شرائح المجتمع وفئاته، بغض النظر عن انتماءاتها العقائدية والفكرية والسياسية.

الثقافة الاستهلاكية

 الاستهلاك كما هو معروف جزء أساسي من حياة الأفراد في أي بقعة في العالم، إن إشباع الحاجات الضرورية للإنسان يقف كأبرز أولويات متطلبات الحياة منذ التجمعات البشرية الأولى حتى اليوم، لكن الشيء المميز في المراحل التي مر بها الإنسان منذ القدم، وإلى عهد قصير، هو تلازم إشباع هذه الحاجيات مع ثقافة كانت لها قيمتها ومظاهرها الروحية والفكرية، التي ميزت شعوباً عن أخرى، وكان لهذه الأمور دور في تطوير وسائل الإنتاج والنظم السياسية والاجتماعية، التي شهدها العالم، خصوصاً الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية، والتي أرست خلال القرون الماضية شكل النظام السياسي والحقوقي الذي جاء معه، وطال الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد، وقد ظلت أوروبا إلى عهد قريب مصدراً مهمّاً للثقافة العقلية، والإنسانية التنويرية، التي انتشرت في أنحاء كثيرة من المعمورة، وساهمت في تطوير الكثير من مجتمعات العالم الثالث، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة.

أما اليوم فنحن أمام ثقافة استهلاكية جديدة مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي نتاج لمجتمع جديد توافدت إليه جاليات من مختلف دول العالم تمثّل ثقافات وهويات مختلفة، منذ أن بدأ يتكون بشكله المؤسسي لفترة تقارب من ثلاثة قرون، هذا التكوين الهجيني فرض العديد من المتطلبات الثقافية من أجل دمج هذه الجاليات أو المجاميع العرقية المختلفة أو صهرها ضمن مجتمع جديد، وخلق التجانس بينها من أجل استقراره، ومن ثم تطويره، وفي هذا الصدد سيكون ضرورياً استعراض عدد من العوامل التي ساهمت في تركيز المجتمع الأمريكي على نمط هذه الثقافة التي أصبحت بديلاً لثقافة أعراقه المختلفة، الأمر الذي أدى لظهور العملية التي اتسمت بها الفلسفة البراغماتية، التي تبلورت بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قادت إلى نسبية القيم وتبدّلها مع التطورات المختلفة، وكذلك دور العلم التجريبي وتقدمه، وأثره في جوانب مختلفة من ثقافة المجتمع الأمريكي الذي يمثل مجتمعاً مقتلع الجذور حضارياً، أي لا امتدادات حضارية سابقة له.

شكّل تعدد الأعراق والقوميات مشكلة كبرى لدى الأمريكيين الأوائل في كيفية التغلب على هذه المسألة، لأن كثرتها تعني تعدد الثقافات والهويات، وتعني أيضاً إمكان الدخول في صراعات أساسها عرقي وثقافي، ومن ثم سيكون عامل عدم استقرار، وتفكّك، داخل المجتمع، وقد يقود إلى حروب وصراعات، وهذا ما حدث بالفعل في الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت لسنوات طويلة، وكانت عامل تفكك واستنزاف للطاقات والمقدرات الاقتصادية، وما إن انتهت حتى أخذ المجتمع الأمريكي بالنهوض التدريجي، لكن ذلك جاء على حساب أمور كثيرة أبرزها الجانب الثقافي المتعلق بهويات تلك الأطراف، فمن أجل الوصول إلى مجتمع مستقر، لا يكون فيه للهويات والثقافات القومية المختلفة دور في إعاقته، جرى التركيز على الجوانب العملية، وإهمال الأمور النظرية الأخرى، وأبرزها المتعلقة بثقافة وهوية القوميات المختلفة، لأنها كانت مصدر تفرقة وإعاقة لنمو المؤسسات الاقتصادية والسياسية المختلفة، ولن تشكل عامل توحد وانصهار في مجتمع متعدد الأعراق.

وبديلاً لذلك، وجد الأمريكيون أنفسهم أمام السلوك العملي، مَخرجاً للتغلب على هذه التعددية العرقية والثقافية، وبهذه الطريقة يمكن على الصعيد العملي إذابة الفروق والاعتقادات، وبناء مجتمع يقدّس العمل، ويقدمه على أي أمرٍ آخر، ويجعل من الأمور الثقافية والفكرية والنظرية أمراً ذاتياً خاصاً للفرد، ولا علاقة له على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني والحقوقي وغيره. وللتدليل على ما سبق، يمكن أن نرى في الجوانب الفلسفية التي قدمها المفكرون والفلاسفة الأمريكيون، والتي تبلورت في الفلسفة البراغماتية انعكاساً واضحاً لما سبق ذكره، فالفلسفة البراغماتية يقوم أساسها على الفعل، وتشعّب من ذلك موضوعاتها المختلفة والمرتكزة على هذا الأساس، ويرفض فلاسفتها الجوانب النظرية أو الاعتقادات المسلّم بها، أي رفض أي مسلّمات بديهية (نظرية أو فكرية)، بمعنى أنها ترفض المسلمات والثوابت، التي يمكن توارثها بين الأجيال لأي مجتمع أو قومية معينة، وتحول الاعتقاد من جوانب نظرية إلى عملية، بمعنى أن صحة أي فكرة أو اعتقاد معين أو فرضية تتحقق من خلال السلوك العملي، فإذا أمكن تحقيقه عملياً في الواقع، كان هذا الاعتقاد صحيحاً، وإذا لم يتحقق فهو باطل، أي أن الحقيقة لم تعد تنتمي إلى ثوابت فكرية أو مسلمات معينة، بل أصبحت ترتبط بالسلوك العملي، ففقدت إطلاقيتها وثباتها، وتحولت إلى حقيقة متعينة لها طابعها النسبي والمتغير مع الأحداث.

إن أبرز الأفكار التي تقوم عليها الفلسفة البراغماتية، تجسد عن حق طبيعة التحولات الثقافية والفكرية التي حدثت في المجتمع الأمريكي من أجل التغلب على مشكلة تعدد القوميات، لولادة مجتمع جديد يتجاوز ما قد يحدث من إشكاليات في حال تكريس الهويات، وثقافة الأعراق والقوميات المختلفة، وقد ترتب على ذلك مشكلة تحديد الانتماء الذي غُيّب في ظل الواقع العملي الجديد، فالهوية تمثل الإطار أو القالب، الذي يمكن أن ينتمي له، أو يشعر الإنسان أنه ينتمي إليه مع الآخرين من أبناء مجتمعه، أي هي أشبه بالرابطة القيمية والمسلكية والروحية بين أفراد المجتمع ككل، أو شريحة اجتماعية معينة، بحيث يرى الفرد نفسه من خلال المجتمع الذي يشاركه القيم والاعتقادات نفسها، وكذلك السلوك. لقد غاب ذلك الأمر في ظل الواقع الثقافي العلمي الجديد وأصبح المرء بشكل عام ينتمي إلى منظومة من القيم الجديدة، ساهم في خلقها الواقع الجغرافي والاقتصادي، فأصبحنا أمام قيم الكاوبوي المغامر، الباحث عن الثراء والمال، الذي يستمد قوته وحماية نفسه بالدرجة الأولى من مسدسه.

العدد 1104 - 24/4/2024