موت الناقد أم عصر الناقد؟

 كثيراً ما تتواتر أطروحات على غير مستوى، تتصل بالمبدع والمتلقي والناقد، وفي واحدة من هذه الأطروحات ثمة جدل لا ينتهي، لا سيما في أطروحة موت المؤلف، على الرغم من التباس هذه الأطروحة في مرايا التلقي، إلا أن رولاند بارت- الناقد الفرنسي وهو صاحبها- أعلن موت المؤلف بقدر ما أعلن عن عصر القارئ، بتغير مرجعيات القراءة وتغير أدوار القارئ، ومع أطروحة (موت الناقد لـ رونان ماكدونالد) ينفتح السجال مجدداً عن النص وكيف يكون قيمة عابرة للأجناس، ومن يجنّس النص، وهل هي الذائقة أم المعرفة؟ وعليه قد يُعلَن تالياً عن (موت القارئ). وهكذا إذا أردنا أن لا نذهب إلى تندّر ضروري في تأويل الواقع الثقافي والحالة الثقافية التي نعيش فيها، أو تلك التي تتصادى أمامنا، وعبر ثقافات عابرة ما زالت تمثل كبرى التحديات والرهانات.

واللافت في هذه السجالات التي تُثيرها تلك الأطروحات، أنها غيرت من موضعة المؤلف والناقد والقارئ، وأشاعت التلقي ليصبح عمومياً وله أحكامه أيضاً النسبية. فهل هو الحديث عن دمقرطة الثقافة والتساؤل عن غياب الناقد الحقيقي وضرورة استحضاره الآن لا تغييبه؟ فهو ليس عبئاً على التلقي ولم يستنفد بعد أدواره، على الرغم من شيوع الممارسة الثقافية وتشظي التخصص، أي بمعنى تداخل الأدوار والمستويات، دون أن تؤدي المعرفة في هذا السياق وظائفها، أي أن ما يجري هو محض كسر لأنماط بعينها في الثقافة والسلوك والفكر والنقد، لكن المسألة في المشهد النقدي ستبدو محكومة بمفارقاتها التاريخية والثقافية والسوسيولوجية والمجتمعية بآن معاً.

لأن الناقد ليس مطلق فرد، وإن كنا لا نعدم وظيفة الأفراد وخصوصيتهم وفرادتهم، وليس الناقد محتكر نصوص، مع أنه المولّد الإضافي لقيمة النص العابرة للنصوص، الناقد إذاً هو وعي جمعي وجمالي تترجمه فرادات بعينها، وعليه فإن إعلان موته ربما ذهب أبعد من ذلك، هو إعلان موت أنماط من التفكير والسلوك في حقل الثقافة وفي حقل الفكر، أي بمعنى التجدد وإن لم يُعلن، التجاوز وإن لم يُقرّ به!.

واللافت للنظر في جميع أطروحات ذلك (الموت) وهو موت مجازي، فيما يخص الناقد بوصفه فرداً كان أم وعياً جمعياً، أنها تستدعي القارئ ليكون أشبه بالبديل للناقد، فهو المؤول والمفكك والمفسر، لكنه ليس صاحب القيمة الجمالية، التي يسعى بإثرها الناقد وما شيوع ممارسة الذائقة في هذا المجال على الرغم من أهميتها، إلا بدائل واهية عن نظرية المعرفة والتراكم، وهذا ما قاد في مشهدنا الثقافي إلى مفارقات مختلفة بصدد ماهية الناقد ودور النقد، خصوصاً أن (الخطابات النقدية) الجديدة والمؤسسة على الذائقة وحدها، قد فصلت النص الإبداعي عن سياقه التأويلي، لأن النقد هو علم النص وذهاب إلى استباره، لا تأملاً في خصوصيته فحسب، بل تأمل في موقع هذه الخصوصية في المشهد الإبداعي، ولذلك يُستدعى السؤال الشاق عن الإضافة، وهو سؤال مشروع لاسيما بصدد من تتواتر مدوناتهم الشعرية كماً لا نوعاً، وفي سياق الاطمئنان إلى نمط بعينه دون أن يخاتل المبدع/ المبدعة المستقر والمتداول والمنجز والسائد، وهذا ما يستدعي الحديث عن وعي المغامرة الإبداعية، ذلك الوعي المحكوم أبداً بقيم التجاوز والمغايرة، فالناقد ليس ضرورة جمالية واجتماعية وأخلاقية وقيمية فحسب، وليس لأنه رائز القيمة بنسبيتها ومطلقها، بل هو (سادن عصر الثقافة)، ففيه يتحرر المعنى من ثقافة نقدية فيما لو كان هو في دوره الحقيقي، أي المعرفي بامتياز قبل أن تذهب شواغله إلى المناهج والنظريات فحصاً أو تطبيقاً، وهذا لا يستثني الجهود التي يقوم بها بوصفه كائناً معرفياً أيضاً.

ندرك الحاجة إلى مساحات التفاعل الخلاق مع النصوص وتكامل الأدوار، وتغير وظيفة القارئ، والقارئ هو الناقد هو وليس محض قارئ عادي، إذ إن القراءة هي كتابة أيضاً وهي حوار، ليس حوار الناقد مع البنيات اللغوية للنصوص فقط، بقدر ما هو حوار مع الأنساق والمضمرات والأبعاد التي تُشكل معنى الثقافة، ذلك المعنى الكلي الذي ظل هاجساً يثمّره حوار المناهج والنصوص، إذ اللغة تلتفت إلى اللغة والسياقات تتكامل لينشأ ذلك المعنى العابر، وكم أسرنا في مدونات الثقافة العالمية وكان ذلك مما أنجزته الذائقة النقدية المعرفية في غير ثقافة، وظل يُتداول في درسنا النقدي وعبر أجيال كثيرة، والأدلة في حقل الثقافة الأخرى أكثر من أن تُحصى.

لا بديل عن الناقد إذاً، لا بديل عن النقد بوصفه ضرورة ثقافية وحضارية أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024