قراءة في تحولات ميزان القوى العالمية

تشكل ميزان القوى العالمي الحالي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، وكانت نواته الصلبة دول الحلفاء مجتمعة التي انتصرت على قوات المحور بعد حرب طويلة وشاقة، وكان مبدؤه الحاكم هو توازن القوى بين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة واشنطن والمعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة موسكو. هذا الميزان تعرض لاهتزاز خطير عام 1991 بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي لتتسيد واشنطن على مدى عشرين عاماً تقريباً المشهد الدولي بصفتها القوة العظمى الوحيدة التي حاولت فرض إرادتها على دول العالم مجتمعة.

بعد هجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية على الولايات المتحدة الأميركية، خاضت واشنطن حربين ضد العراق وأفغانستان أدتا إلى اهتزاز وضعها الاقتصادي انعكس ذلك على سياستها الخارجية. وكانت هذه اللحظة المناسبة التي انتهزتها موسكو للعودة بقوة إلى الميدان الدولي بعد أن أعادت ترتيب بيتها الداخلي ومحيطها الحيوي، ما أدى إلى اضطراب في موازين القوى العالمية وتحوله لمصلحة قوى التغيير التي يترأسها محور موسكو – بكين، ومن خلفه مجموعة دول البريكس، على حساب قوى الاستقرار بقيادة واشنطن ومن خلفها حلف الناتو.

الصراع بين هذه القوى أخذ شكلاً أشد تعقيداً وتركيباً بعد هبوب عواصف (الربيع العربي) على منطقة الشرق الأوسط، من حيث أطرافه وطابعه وأهدافه، لأسباب عديدة، في مقدمتها، صعود جيل جديد من الإرهابيين أكثر تطرفاً، وأشد خطراً وعنفاً، وأوفر دهاء وذكاء، وتنامي دورهم حجماً ونوعاً، وازدياد نفوذهم في مناطق كثيرة حول العالم، نتيجة تحولهم جزئياً إلي قادة ورموز لحركة تمرد اجتماعي في بعض البلاد التي تغلغلوا فيها، ووجدوا فيها حاضنة لهم بين فئات اجتماعية مهمشة، فصاروا مزيجاً من حركة إرهابية بمرجعية سلفية جهادية، والتمرد بطابعه الاجتماعي، ما جعل الصراع في العالم يتجه لأن يكون ثلاثياً بين قوى محافظة، وأخرى تريد التغيير، وهو ما يحدث عادة في التحولات الكبرى التي تصيب المجتمعات البشرية، وثالثة مدمرة تريد فرض منهاجها وأسلوبها بالحديد والنار في العالم، وهي المتحول الجديد الذي يميز هذه المرحلة من تاريخ البشرية.

هذه القوة الثالثة التي يمثل تنظيم (داعش)، رأس الحربة فيها، تشكل إرهاصاً لحالة جديدة تنطوي علي بعدين، أولهما يتعلق بنمط الصراع الذي يتجه، لعدة سنوات قادمة علي الأقل، لأن يأخذ طابعا ثلاثياً. أما البعد الثاني والأهم، فهو أن القوة الثالثة الصاعدة تهدف إلى تقويض أركان النظام العالمي وقواعده كافة، وإحلال منظومة مختلفة تماماً محله، وهي تملك من القدرة والتأثير ما يجعلها أحد القوى المركزية فيه، بعد أن كان هذا النوع من القوى هامشياً أو ثانوياً من قبل.

وقد كان المشهد العام في النظام العالمي، حتى منتصف تموز 2014 يتمحور حول تنامي الصراع بين القوى المحافظة، وقوى التغيير حتى ظهور (داعش) وتصدرها لمسرح السياسة الدولي وظهور قدراتها وإمكاناتها بشكل جلي وواضح، الأمر الذي دفع البيت الأبيض للاعتراف بأن إدارته وأجهزتها الأمنية أساءت تقدير هذه القدرات. ولذلك، كانت الذكرى الثالثة عشرة لهجمات 11 أيلول التي أطلقت الحرب الأمريكية الأولى على الإرهاب مناسبة لإعلان حرب ثانية تسعي الولايات المتحدة من خلالها إلى حشد أكبر دعم دولي لها. وليس ممكناً أن يحدث ذلك إلا نتيجة تغير كبير يحمل في طياته تحولات محتملة في أنماط التفاعلات السائدة في النظام العالمي ستؤثر بشكل كبير على مستقبله.

يأتي في طليعة هذه التحولات اضطرار القوتين المحافظة والساعية للتغيير إلي إعادة النظر في بعض حساباتهما، والعمل على ضبط حدة الصراع بينهما وخفضه، في ضوء صعود قوة ثالثة مدمرة تهددهما معاً في الآن نفسه، وتسعي إلى إحداث تغيير جذري في النظام العالمي.

إلا أن تجنب تصاعد محتمل في الصراع بين القوى المحافظة، والقوى التي تريد التغيير في النظام العالمي، وضمان عدم تطور هذا الصراع في اتجاه يصب في مصلحة القوى المدمرة، ينبغي أن يقترن بإدراك الولايات المتحدة ضرورة مراجعة سياستها الخارجية المرتبكة في مرحلة لا يتحمل فيها هذا النظام الحالي المزيد من التخبط والفوضى، واستيعاب دروس حربها الأولى علي الإرهاب، والنتائج العكسية التي ترتبت عليها. وربما تكون الخلاصة الأهم من درسها السابق ضرورة اعترافها بالمفارقة التاريخية التي أسهمت في خلق الحالة الجديدة الراهنة في النظام العالمي، وهي أن سياسات الدول التي تقود معسكر الاستقرار بقيادة واشنطن شاركت وعلى مدى حوالي العقدين من الزمن في زعزعة الاستقرار العالمي، وتهيئة الأوضاع وتمهيد الأرضية لصعود قوى التطرف المدمرة التي تحلم ببناء منظومة دولية جديدة تتناسب ومنطلقاتها الفكرية والعقائدية.

العدد 1105 - 01/5/2024