دولة القانون

رجل القانون المحامي السوري د. مصطفى أمين، يطرح مسألة (دولة القانون) وتطوراتها، تعريفاً ومبادئ، وممارسات متفاوتة، في عديد من البلدان الأجنبية والعربية. دولة القانون، تعني الدولة الديمقراطية التي يحترم حكامها القانون ويخضعون له، وينعم مواطنوها بحقوقهم وحرياتهم، هذه الدولة التي كثر الحديث عنها في هذه الأيام، وترتفع أصوات المثقفين في البلدان العربية وفي بلدان العالم الثالث، تطالب بقيامها وتدعو لها، هذه الدولة، دولة القانون، ليست وليدة الخيال كجمهورية أفلاطون ولا هي وهم يستحيل تحقيقه، وكتب التاريخ خير شاهد على ذلك.

فمنذ أن ظهرت الملكية الفردية وانقسم المجتمع إلى فئات حاكمة وأخرى محكومة وسيطرت أساليب القمع والإخضاع والاضطهاد، منذ ذلك الحين تحتّم وجود القانون وظهور القاضي، لحماية الحرية والعدالة الاجتماعية.

وربما كانت أثنة* أقدم بلد في التاريخ رفع لواء حكم القانون وأخضع لسلطته جميع السكان، مسؤولين كباراً أو عمالاً صغاراً. وقد بدأ حكم القانون في أثنة بعد انتخابها (الحكيم صولون) رئيساً عليها في عام 594 قبل الميلاد، وصولون هو أحد حكماء اليونان السبعة الذين عرفتهم بلاد اليونان عبر التاريخ.

ويوضح الدكتور كامل عياد في كتابه (تاريخ اليونان) بقوله: (إن أثنة التي تحررت نهائياً في القرن السادس قبل الميلاد من الحكم الأرستقراطي، وأسست لأول مرة في تاريخ العالم مجتمعاً يتألف من مواطنين متساوين في الحقوق لا فرق بين أعظم النبلاء وأصغر السوقة. ويذكر المؤلف أن صولون بدأ عهده بإعلان العفو العام لتصفية الماضي، وسمح للمنفيين بالرجوع إلى وطنهم وأعاد إليهم حقوقهم المدنية، وحرّر الأفراد الذين كانوا قد أصبحوا عبيداً وأقناناً بسبب عجزهم عن دفع ديونهم. ثم وضع الأسس القانونية لإقامة دولة القانون، وأهم ما قام به أنه فرض على إدارة الحكومة الخضوع لقوانين مكتوبة ثابتة بعد أن كانت تسير حسب أوامر وقرارات ارتجالية متغيرة، وقام بتأسيس مجلس المحلفين أو مجلس القضاء الأعلى، المؤلف من ستة آلاف عضو يُنتقون بالقرعة من جميع الطبقات، وينقسم هذا المجلس إلى محاكم متعددة تنظر في جميع القضايا باستثناء جريمة القتل. وأعاد العمل بمجلس الشعب الذي يشترك جميع المواطنين في مناقشاته. وقد عهد صولون إلى هذا المجلس مهمة انتقاء الحكام، وكان جميع الموظفين مسؤولين أمامه وله حق محاسبة الحكام وقواد الجيش عند انتهاء مدة عملهم.

وقد عقّب أرسطو على قرارات صولون وقوانينه بقوله: (يعتقد البعض أن صولون قد صاغ قوانينه في قالب غامض عن قصد حتى يفسح المجال أمام الشعب لاستخدام سلطته الحقوقية للسيطرة على سياسة الدولة).

ويقول الدكتور كامل عياد (بينما أصبحت (أسبارطة) قدوة للدول الفاشية في الحكم الصارم الإرهابي الذي يخضع الأفراد في كل الأمور لمراقبة الدولة وتوجيهها، صارت أثنة رمزاً لمبادئ الحرية والمساواة والأخوة).

كانت دولة صولون مثالاً للدولة الديمقراطية وقدوة لدولة القانون، وستبقى شاهداً على عظمة الفكر التقدمي الإنساني الذي أقام أول دولة في التاريخ تخضع لحكم القانون ويشترك شعبها في تقرير شؤونه.

وفي أوربا ورغم انقضاء قرون عديدة على هيمنة أنظمة الاستبداد وطغيان حكم الفرد ورغم أساليب القمع والبطش والسجون، رغم كل ذلك، أفاقت أوربا في أوائل القرن الثامن عشر على نداءات المفكرين من فلاسفة وكتّاب وفنانين ينادون بالحرية للشعب وبإنهاء حكم الفرد ويتوجهون إلى الفرد، الإنسان البسيط، كي يقف للدفاع عن حريته لأنها حقه المقدس الذي لا يحق له التنازل عنها ولا يحق لأية سلطة أن تسلبها منه. وكان موضوع توزيع سلطات الحكم كي لا تكون في يد شخص واحد، من المواضيع الرئيسية التي دار النقاش حولها بين هؤلاء المفكرين، لأن بقاء سلطات الحكم الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد شخص واحد، يحوّله إلى ديكتاتور على الشعب والمجتمع. ونادوا بإقامة مجتمع العدالة والحرية والمساواة، الذي تبنّته لاحقاً الثورة الفرنسية وجعلته من أركان الإعلان التاريخي الصادر عنها.

لقد ركز بعض المفكرين على المفاهيم القانونية والمطالب الحقوقية، إضافة إلى المطالب السياسية والاجتماعية. إن القيم الجديدة التي جاء بها فلاسفة عصر النور، والتي أخذت شكلاً حقوقياً، قد طورها الثوار إلى مبادئ ثورية. وسيذكر التاريخ بتقدير واحترام المفكرين الرواد أمثال مونتسكيو، وفولتير، وروسو، وديدرو، الذين كان لكفاحهم العنيد المتواصل خلال سنين عديدة في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية الدور الكبير في إسقاط عهود الظلام وشق الطريق أمام عصر النور الذي تتمتع به شعوب أوربا.

ويذكر أن مونتسكيو الذي كان يشغل منصب رئيس محكمة الاستئناف في مدينة (بوردو- فرنسا) كان من أبرز المفكرين الذين ركزوا في كتاباتهم ومحاضراتهم على مبادئ الحقوق الطبيعية التي أوجدت القواعد الحقوقية، والتي تؤمّن للناس الحرية والمساواة وتعطي المجتمع سلطة مطلقة على كل فرد من أعضائها. ومما جاء في كتابه الشهير (روح القوانين): (إن حياة الجماعة تحددها سلطة غير شخصية، هي القانون، القانون الذي يتدخل في حياة كل فرد ويتجاوزه ويبقى من بعد الأجيال، ويبقى مستقيماً إزاء تعسف الأفراد وطباعهم.. ولا يجوز للملك أن يحكم إلا باسم القانون، وليس له إلا أن ينفذ القوانين باعتبارها المحصلات الضرورية الناجمة عن طبيعة الإنسان). وقد جاء في كتابه (فلسفة الثورة الفرنسية) لمؤلفه برنار غروتويزن إن مونتسيكو كان يؤكد (أن الدولة شركة بين أفراد تتمتع بحقوق تهدف إلى تأمين حقوق الجميع).

ويقول في مكان آخر: كما تنعدم الحرية إذا لم تفصل السلطة القضائية عن السلطة التشريعية، لأن حرية المواطنين وحياتهم تصبح تحت رحمة المشرع ما دام هو القاضي، وإذا كانت السلطة القضائية متحدة بالسلطة التنفيذية فإن القاضي سيكون طاغية لأنه يصبح تابعاً لإرادة الطاغي). ويقول أيضاً: (إن أي تسلط من سلطة على أخرى يشكل ديكتاتورية مبطنة وخللاً في الديمقراطية وتعدياً على حقوق الفرد والمجتمع). إن أقوال مونتسكيو ومحاضراته وكتبه ومقالاته قدمت إسهاماً كبيراً في بلورة وصياغة مجتمع القانون والأسس التي تبنى عليها دولة القانون.

دولة القانون هذه المبنية على سيادة القانون والفصل بين سلطات الحكم الثلاث، لامستها وسعت إلى إقامتها بعض الدول في العالم الثالث وبضمنها بعض الدول العربية التي تمكنت من انتزاع استقلالها وسيادتها الوطنية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حين انتصرت فيها قوى السلام والحرية على قوى الحرب والطغيان.

ولكن تجربة هذه الدول في بناء دولة القانون لم تُستكمل وقبل أن يشتد عودها وتترسخ قواعدها وتتعمق جذورها الشعبية عاجلتها الردة الإمبريالية الرجعية، وقوّضت أركانها وأعادت هذه الدول إلى حكم الأنظمة التي مازالت تعاني منها.

إن تجربة البلدان الأوربية وبلدان أخرى في آسيا وإفريقيا، تشهد بأن سيادة القانون القائم على مبدأ الفصل بين سلطات الحكم الثلاثة كان في أساس استقرار المجتمع وكفالة حرية المواطن وحقوقه وتفتح طاقاته، كما أكدت أهمية مبدأ الفصل بين السلطات شخصيات رسمية وعلمية كبيرة، ونسوق هنا ما ورد على لسان الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأمريكية جيمس ماديسون قوله: إن الضمانة الكبرى للوقوف بوجه التمركز التاريخي هو في إعطاء أولئك الذين يديرون كل سلطة الوسائل الدستورية الضرورية ليقاوموا أي تدخل أو تعدٍّ يصدر عن هذه السلطة أو تلك.. فالحكومة ما وُجدت إلى للحد من نزعة الشر الموجودة في النفس البشرية، ولو كان الناس ملائكة لما كانت هناك حاجة لقيام الحكومات ولمبدأ الفصل بين السلطات.

وفي مقالة للقاضي الفقيه المرحوم نصرة منلا حيدر الذي شغل منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا في سورية، نُشر في مجلة (المحامون) بدمشق في أواسط السبعينيات جاء فيها: (وفي رأينا أنه لا يمكن أن يستقيم الأمر في دولة ما، وتشيع فيها الطمأنينة وتتحقق في جنباتها العدالة إلا بإضفاء صفة السلطة على القضاء، وهو الأمر الذي أخذت به الدول المتقدمة وتسعى إلى الأخذ به أغلب الدول المتخلفة، فضلاً عن ضرورة استقلال القضاء، فإن هذا الاستقلال لا يكتمل إلا في نظام يؤمن بالديمقراطية وسيادة القانون.. حيث تكون حريات الناس وحقوقهم محترمة، وأن لا يُحال تشريعياً بين الفرد وبين مقاضاته السلطة العامة، وأن لا يُنتزع من قضائه الطبيعي وهو القضاء العادي، ليرمى به أمام محاكم خاصة أو استثنائية، لا همّ لها سوى إرضاء نزعات الحكام حتى لو تم ذلك على حساب مصلحة القانون).

ويؤكد عضو المحكمة الدستورية العليا في أمريكا عام 1939، القاضي ويليام دوغلاس على هذا الموضوع بقوله: (إن استقلال القضاء القوي يُعتبر حصناً عظيماً للشعب، وإذا ما خضع القضاء لأهواء خاصة ووضع القضاء في إطار سياسي، بدلاً من إطاره القانوني والقضائي، يصبح القضاء نفسه آلة بيد السياسي. فقد كان كفاح الشعب من أجل العيش في حكومة قوانين لا حكومة أشخاص، فالقضاء في حكومة تحكمها القوانين يعمل على زرع الثقة في الأوساط السياسية والشعور بالمسؤولية في نفوس المشرّعين وأوائل الذين ينفذون القانون، وعندما يكون القاضي عضواً في المؤسسة الحزبية التي تحكم البلد، فأين هو الضمان في حياده وعدالته واستغلاله وقول كلمة الحق).

إن دولة القانون القائمة على مبدأ الفصل بين السلطات والتي تتمتع فيها السلطة القضائية باستقلالها، هي التي تمنح القوة والخبرة للقاضي للوقوف بوجه الشر أينما وجد لحماية المجتمع من أعدائه ووضع حد للجريمة المنظمة.

وقد سمعنا وقرأنا عن المهمات الصعبة التي قام بها القضاة في إيطاليا، عرفوا باسم الأيادي النظيفة، ضد عصابات المافيا الرهيبة التي روعت المجتمع ونشرت الفساد فيه وهيمنت على الحياة الاقتصادية وتطاولت على القانون، وقد تمكن القضاة الشباب من تفكيك هذه العصابات وتقديم رؤوسها للقضاء على رؤوس سياسية كانت تحتل مراكز رسمية في الدولة وتحمي هذه العصابات وتتعاون معها.

ومنذ أشهر استدعى القضاء الفرنسي وزير الخارجية السابق رولان دوما للتحقيق معه، بعد اتهامه باستغلال منصبه ونفوذه عندما كان وزيراً للخارجية، واشتراكه بصفقات مشبوهة، وفي ألمانيا استدعى المحققون مستشار ألمانيا السابق هيلموت كول للتحقيق معه حول أموال غير شرعية قبضها لحساب ومصلحة حزبه. وقد استقبلت القوى المتعاطفة مع العدالة وحقوق الإنسان، بترحاب وتقدير مبادرة القضاء الإسباني لتحريكه الدعوى العامة ضد ديكتاتور تشيلي السابق بينوشيت لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها عند توليه السلطة وذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء الشعب التشيلي وتنفيذاً لأوامر شركة الفواكه الاحتكارية الأمريكية. وفي أندونيسيا قام القضاء بتحريك الدعوى العامة ضد الدكتاتور سوهارتو لمحاكمته على الجرائم والمذابح التي ارتكبها حين تسلم السلطة وذهب ضحيتها نحو مليون مواطن أندونيسي وقضى على الحكم المدني الديمقراطي الذي ازدهر في عهد الرئيس سوكارنو.

إن هذه الأمثلة وغيرها تشهد بأن القضاء المستقل في دولة القانون قادر على محاربة أعداء الشعب من عصابات المافيا إلى العناصر المسؤولة في جهاز الدولة وأصحاب النفوذ الذين يحمون ويشجعون ويتعاونون مع هذه المافيات على سرقة ونهب أموال الشعب وتخريب مؤسسات الدولة ونشر الفساد في مختلف أجهزة الدولة وبخاصة الجهاز القضائي.. لقد حرصت دولة القانون في البلاد المتطورة على تدعيم السلطة القضائية وتوفير الشروط الضرورية لكي يقوم القاضي بمهمته وواجباته بموضوعية ونزاهة، ومن أهم هذه الشروط:

1-    أن تكون السلطة القضائية هي صاحبة الحق في اختيار القاضي وترقيته ونقله ومحاسبته وحمايته.

2-    أن يتأمن للقاضي دخل مادي يسمح له بأن يعيش حياة كريمة ويعصمه عن الزلل والمغريات والمداخلات.

3-    أن يكون لقراره صفة الاستقلالية حسب قناعته وأن تأخذ أحكامه طريقها إلى النفاذ دون إلغاء أو عرقلة.

إن السلطة القضائية التي تحمل عبء مكافحة الفساد ومجابهة الجريمة المنظمة وأساليب التلاعب بالقانون، إن هذه السلطة إنما تستمد قوتها وقدرتها وهيبتها من شجاعة وإخلاص أعضائها القضاة وتمسكهم بالعدل والحق الذي يصبح متأصلاً في نفوسهم وضمائرهم، ويبقى الضمانة الكبرى لاستقلال السلطة القضائية ونزاهة القاضي هو النظام الديمقراطي السليم والصحيح.

وحين تغيّب الديمقراطية في بلد ما، وتصبح السلطة القضائية خاضعة للسلطة التنفيذية أو تصبح إحدى مؤسسات الدولة والقضاة موظفون لديها، حينئذ يعلو نفوذ المحاكم الاستثنائية وترتفع ألوية قوانين الطوارئ والأحكام العرفية ويُفتح الباب أمام مختلف أنواع المافيات والجريمة المنظمة لنشر الفساد بكل أنواعه وفي مختلف جوانب المجتمع، كما هو الحال مع الأسف في معظم البلدان العربية ومعظم بلدان العالم الثالث.

وأخطر من كل ما سبق، ستكون دولة قانون الطوارئ عاجزة عن مجابهة التحديات الكبيرة التي تجابهها وخاصة ما يهيئه لها ولأمثالها نظام العولمة الذي يقوده نظام العالم الجديد لتنفيذ مشاريعه في الهيمنة والتسلط والتحكم برقاب العباد والبلاد، يضاف إلى ذلك بالنسبة للعالم العربي ولدول الطوق منها بوجه خاص ما يشكله الكيان الصهيوني من تحدٍّ خطير لها، ومنذ قيام هذا الكيان فقد شكل تهديداً مباشراً للأمة العربية شعباً وأرضاً، وهو عملياً يستنزف قسطاً كبيراً من دخلها وثرواتها ويعرقل نموها وتطورها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ويشكل تهديداً مستمراً لأمنها واستقرارها.

إن مجابهة هذه التحديات ومقاومتها مع الاحتفاظ بالسيادة والقرار الوطني يفترض إفساح المجال لاشتراك ومساهمة كل القوى الفعالة في المجتمع.. ولن تتمكن هذه القوى من خوض هذه المعارك إلا في جو من الحرية والديمقراطية يقوم على إغلاق المحاكم الاستثنائية وإلغاء القوانين الاستثنائية. إن من حق الجماهير الشعبية أن تساهم في الدفاع عن وطنها وأن يكون لها دورها في تقرير قضايا الوطن المصيرية.

وعندما يصمم الشعب على إقامة دولة القانون وإسقاط حكم الفرد وتوزيع سلطات الحكم بين سلطات متخصصة مستقل بعضها عن بعض، فلابد أن يحقق أهدافه ولنا في بعض دول العالم الثالث أمثلة ناطقة حية على ذلك.

في أوائل شهر آذار الماضي تكلم الرئيس خاتمي أمام مجلس الشورى الإيراني ومما جاء في أقواله: (إن تجاوز السلطة التنفيذية على السلطة القضائية يؤدي إلى الديكتاتورية). إن إيران التي كانت قبل نحو عشرين سنة تقبع تحت نظام الشاه التعسفي الدموي وتعيش في ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وتهيمن على مقدراتها السياسية الإمبريالية، تبني اليوم مجتمعها المدني ومؤسساتها المدنية الديمقراطية ويمارس شعبها حرياته الأساسية، وهي تسير رغم الصعوبات والعراقيل لتوطيد نظام ديمقراطي سليم قادر على مجابهة التحديات وحماية السيادة الوطنية.

ولنا في جمهورية جنوب إفريقيا مثال ساطع آخر على نضال هذا الشعب العنيد الذي كان يعيش قبل بضع سنين في ظل نظام الفصل العنصري الفاشي وتحت لواء القوانين التعسفية الاستثنائية و(الأبارتيد)، وبفضل التضحيات التي قدمها هذا الشعب بقيادة المناضل نيسلون مانديلا، فقد تمكن من خلع نير الحكم العنصري البغيض وإلغاء القوانين التعسفية، والمحاكم الاستثنائية وإقامة دولة القانون على أنقاضه وإخضاع كل أفراد الشعب رئيساً ومرؤوساً للقانون الذي خضع له الجميع تحت لواء حكم ديمقراطي متطور يقود مجتمعاً يسعى إلى اللحاق بركب الشعوب المتطورة.

وكانت جمهورية الهند ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان قد انتزعت استقلالها وسيادتها الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بفضل نضال جماهيري كاسح قاده المهاتما غاندي والباندبت نهرو، ضد الحكم الاستعماري البريطاني ونظام الإرهاب والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وضد النظام المتخلف الرجعي، وتكلل هذا النصر الشعبي الكبير بإقامة دولة القانون في ربوع القارة الهندية، وحققت للمواطن الهندي حقوقه الطبيعية الإنسانية وتعتبر الهند مثالاً رائعاً لدولة القانون.

وقبل ما يزيد عن عشرين سنة قال العلامة الفقيه عبد الرزاق السنهوري: (الحق إن الدولة الديمقراطية التي لم ترسخ لها قدم في الحكم الديمقراطي الصحيح، هي في أشد الحاجة إلى رقابة القضاء، ذلك أن لكل ديمقراطية ناشئة لم تنضج فيها المبادئ الديمقراطية ولم تستقر هذه المبادئ عندها في ضمير الأمة، تكون السلطة التنفيذية فيها أقوى السلطات جميعاً، تتغول على السلطة التشريعية وتسيطر عليها وتتحيف السلطة القضائية وتنتقص من استقلالها، والدواء الناجح لهذه الحال هو العمل على تقوية السلطة القضائية، فهي أقرب السلطات الثلاث إلى الإصلاح).

وفي قول لأحد الفقهاء العرب جاء فيه: (لست أدعي في سبيل تعليل ثبات السلطة القضائية ورسوخها، ما ليس لبشر من القوة، وإنما لو أمعنا النظر في طبيعة عمل السلطة القضائية لوجدنا أنها هي الجهاز الذي يحقق الأمن للمجتمع بإقامة العدل ولا حياة بدون أمن قائم على العدل، وهي الجهاز الذي يطمئن إليه الشعب في الحفاظ على حرياته وأعراضه وأمواله).

ولا يتحقق للسلطة القضائية القيام بهذه المهمات النبيلة إلا ضمن نظام ديمقراطي سليم، وحين تتوفر الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية لقيام النظام الديمقراطي الصحيح، تنهض الأسس القانونية والسياسية لقيام دولة القانون.

ويتساءل المواطن العربي: ألم يحن الوقت لقيام دولة القانون على الأرض العربية؟

*لا يخفى على القارئ أن المقصود هو (أثينا).

مصادر البحث

– تاريخ اليونان، الدكتور كامل عياد.

– فلسفة الثورة الإفرنسية- برنارد غروتويزن.

– روح القوانين (الكتاب 11)، مونتسكيو.

– استقلال السلطة القضائية، محمود عصفور.

– الحرية في ظل القوانين، للقاضي الأمريكي عضو المحكمة العليا وليم دوغلاس، ترجمة إبراهيم إسماعيل.

– القاضي نصرة منلا حيدر، رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقاً، مجلة (المحامون) عام 1978.

*****

عن مجلة (الطريق)، العدد الرابع، تموز 2001

العدد 1107 - 22/5/2024