العلاقة الجدلية بين النمو.. والعدالة والديموقراطية!

 استدعى انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بالشكل والسرعة الذي جرى إلى إثارة العديد من التساؤلات لدى الشيوعيين، الماركسيين، التقدميين ورجالات الفكر عموما. وقد لوحظ بروز أربعة اتجاهات لدى محاولة الإجابة على تلك التساؤلات.

الاتجاه الأول: يرى أن ماجرى هو نتيجة مؤامرة خارجية فقط دون الإشارة إلى الأسباب الداخلية.

الاتجاه الثاني: يعتقد أن الماركسية أثبتت فشلها وفقدت مهمتها التاريخية وبالتالي وصلت البشرية إلى نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية.

الاتجاه الثالث: يتمسك بالماركسية كنظرية ومنهج مع السعي لتطوير بعض جوانبها كي تتلاءم مع تطور البشرية في جميع المجالات، من دون التخلي عن قوانينها الأساسية المتعلقة خصوصا بفائض القيمة والتوزيع العادل للثروة وطنياً وعالمياً.

الاتجاه الرابع: لايتنكر للماركسية (جهارا) لكنه يسعى إلى خلق بديل أو بدائل (توليفة ما) عبر معارضتها حينا بالديموقراطية ، وفق المفهوم الغربي الذي يقتصر على الديموقراطية السياسية فقط مع تجنب الحديث عن الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية، وأحيانا أخرى عبر التبشير بالليبرالية الجديدة وان زمن الصراع الطبقي ولى.كما يؤكد على التطور السلس للمجتمعات…يحاول هذا الاتجاه اخذ التقدم الذي حصل في بعض بلدان المركز ونسيان الأطراف مع عدم الإشارة بوضوح إلى النهب الإمبريالي والحروب التي تسببها من اجل زيادة ثروتها والاستغلال الطبقي الذي تمارسه بحق ملايين البشر.

يلاحظ مثلاً لدى هذا الاتجاه اختفاء مصطلحات: الإمبريالية، النهب الإمبريالي، الطابع العدواني للنيوليبرالية، الصراع الطبقي أو الثورة ووووو مع الانبهار بالديموقراطية وفق المفهوم الغربي لها. لدرجة يبدو أحياناً أنه يسعى (لدفن الماركسية دون ورقة نعي أو جنازة).

بودّي التوقف عند الاتجاه الرابع الذي أزعم انه يرمي، أرجو أن أكون مخطئا، إلى التخلي تماما عن الماركسية وقوانينها الأساسية متكأ على انهيار تجربة المعسكر الاشتراكي والتطورات الإيجابية التي حصلت في بعض دول المركز نتيجة النهب الاستعماري المباشر وغير المباشر للأطراف. تقول الماركسية أن التناقض الأساسي للرأسمالية يتجلى في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والطابع الفردي للملكية الخاصة. الملاحظ أن تطور المجتمع الصناعي ونمو الرأسمالية يزيد من الطابع الاجتماعي للإنتاج.

لكن ورغم اتساع قاعدة المشاركين في الإنتاج عما كانت عليه أيام ماركس (لم تعد الطبقة العاملة وحدها هي المنتجة بل اتسعت لتشمل الموظفين، العاملين في مختلف القطاعات وكل من يعمل بأجر في الصناعة، الزراعة أو التجارة…) أقول رغم ذلك بقيت ملكية وسائل النتاج بيد مجموعة صغيرة، كما خرج الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج من الإطار الوطني إلى الإطار العالمي: بيوتات المال، احتكارات، شركات عابرة للحدود وووو الأمر الذي أدى إلى ازدياد صراع وتحكم المراكز الاقتصادية الكبرى بالمنتجين والمستهلكين وبشكل خاص في الأطراف. لقد بلغ التشابك والاندماج في العالم سوية عالية وغدا الطابع الاجتماعي للإنتاج أكثر جماعية غير أن القوة الاقتصادية والعسكرية بقيت محصورة في أيدي عدد قليل من الدول.

تشير تقارير مراكز الأبحاث إلى أن 85 شخصاً في العالم (غالبيتهم في الولايات المتحدة وأوربا) يستأثرون بثروة تعادل مابحوزة نصف سكان الكرة الأرضية (نحو 5,3 مليار إنسان). يبلغ متوسط أجرة ساعة العمل في الدول الفقيرة (الأطراف) بين2 إلى 2,5 دولار بينما تتراوح في البلدان المتطورة (المركز) بين 12 إلى 18 دولار.

يبرز اليوم التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والطابع الفردي للتملك الذي تحدث عنه ماركس أكثر وأكثر، وان اتخذ أشكالاً مغايرة لما كان عليه أيام ماركس. لكن بقي الجوهر.

إضافة إلى ذلك تتم اليوم وبأشكال مختلفة عملية (تطويع) ديموقراطي للمجتمعات عبر نشر ثقافة التكيف مع اقتصاد السوق، نزع أي طابع سياسي عن القضايا الاجتماعية، هضم خصخصة الخدمات العامة والسعي إلى قضم المكتسبات التي حققتها الشعوب بنضالاتها في القرنين الأخيرين وفي الفترة الأخيرة الديموقراطية كوصفة سحرية لحل جميع المشكلات (في الدنيا والآخرة).

ما العمل؟

كيف يمكن تحقيق عدالة في توزيع الثروات على المستويين الوطني والعالمي؟ كيف يمكن لجم النهب الإمبريالي لدول الأطراف بل وحتى لبعض دول المركز (البلدان الاشتراكية السابقة مثلا)؟كيف يمكن مجابهة الحروب التي تشن وتدمير مجتمعات ودوّل بأكملها؟؟ هل يمكن تحقيق العدالة بالديموقراطية السياسية فقط؟ هل تتحقق العدالة مع استمرار فعل قوانين فضل القيمة الزائدة وتعاظم الهوة بين الفقراء والأغنياء شعوباً ودولاً؟ هل هناك علاقة جدلية بين النمو، العدالة والديموقراطية الحقة؟

ويبقى السـؤال الأهم ماهي النظرية أو المرجع/ السلاح الفكري (إن لم تكن الماركسية) التي يمكن أن يستند إليها اليسار خصوصا في محاولة الإجابة على تلك التساؤلات وغيرها وحلها لصالح الأكثرية؟

من جهتي لا أزعم أنني أملك أجوبة جاهزة لغالبية هذه التساؤلات، أحاول الاجتهاد ما استطعت.من هنا تأتي الدعوة إلى أهمية تفعيل مختلف أشكال الحوار بين اليساريين خصوصاً للوصول إلى قواسم مشتركة من أجل عالم.. بلا حروب أو استغلال، من أجل بيئة نظيفة، من أجل توزيع عادل للثروة على المستويين الوطني والعالمي.

العدد 1107 - 22/5/2024