التحليق

كلَّ شروق شمس يزورني عباس بن فرناس، يقدم لي زهرة واحدة ويقول: أهم شيء في الدنيا أن تدرّب أفكارك على التحليق وتركّب لها أجنحة. ورغم فشلي في الطيران إلاَّ أن مخيالي ظلَّ صامداً يضخّ صوراً لا أزال أحتفظ بجمالها في ذاكرتي.

احتفظتُ بنصائح من علّمنا التحليق في فضاء الحياة، خاصة عندما تخرجتُ في الجامعة ولم أجد عملاً يؤمن لي رغيف خبز، ويحميني ويستر (عورة) الجوع ولو بورق الرمان!

أصبح التحليق منهجاً له أسسه وعناصره وشروطه، ليس بإمكان أيّ شخص أن يرعى بأفكاره في أية منطقة، يتركها تسرح بين الأشجار المثمرة، تكسر الأغصان وتدوس على الثمار. فالتحليق مشروع تجميع الصور في ألبوم الذاكرة، وتحويلها إلى مذكرات كي يقرأها الأبناء والأحفاد.

وبدأ الخوف يتربّص بمن يترك أفكاره وهواجسه تحلّق، كما يريد لها أن تطير ولو بأجنحة من ورق… الخوف من إصدار القوانين التي تحدد المساحة المحددة للطيران مثل(عدم التخيل بأنك تجد عملاً لأبنائك وبناتك الذين تخرجوا في الجامعة منذ عقد، وعدم المطالبة بزيادة الأجر، وأن تقول إن بلادنا تمر بأزمة اقتصادية..و..و..).

اليوم.. وبعد أن حلّقت الأزمة السورية، ولم تجد حتى الآن محطة آمنة لتفكيك عقدها، أصيبت الأسعار بالجنون. فسعر الفروج يحلّق، وتطايرت رياش المواطن وتكسّرت أجنحته، وأصيب بعمى الألوان وهو يراقب ارتفاع الأسعار وزيادة متطلبات الحياة، خاصة وهو يقرأ اقتراح وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بزيادة سعر كيلو السكر ومثله سعر كيلو الرز ثلاث ليرات، وتدرّج ارتفاع ليتر المازوت (من 15 إلى 20 ثم إلى 23 و25 ليرة سورية. ويباع في محطات الوقود للحافلات بأكثر من ثلاثين ليرة). وأصبح صاحب الخيال النقي يتجنَّب المرور في سوق الخضار، ويفضل السير على قدميه رغم تآكل غضاريف ركبتيه، واختيار المشي في الأزقة على المشي في الشوارع العريضة، والابتعاد عن محلات الجزارين كيلا يسمع فرم اللحمة بسكاكينهم، ولا يقدر أن يبتاع نصف كيلوغرام من لحم بقرة مسنّة. وأصبح المواطن يصدق جميع الشائعات والأخبار المتسربة من شقوق أبواب الوزارات.. وعندما عرف أن سعر كيلو الفاصولياء  بمئة وخمسين ليرة، وسعر كيلو الكوسا بستين ليرة والخيار بستين ليرة أيضاً، أسعف إلى أقرب مشفى ولا يزال في العناية المشددة!

تخيّل أنك تحلّق فوق مدينة دمشق، وتبدأ الطيران من جبل قاسيون متجهاً نحو الجنوب.. ماذا ترى؟ وماذا تقول؟ وماذا يعني لك كل هذا التدمير والخراب والإرهاب والقتل وموت الأبرياء؟

لم يعد التحليق في فضاءات مخنوقة بالأدخنة والحرائق والخوف والخطف والكذب والموت ذا فائدة!

ولم يعد المخيال المنسوج بالأمل يورق الابتسامات، لعدم قدرته على اختراق هذا الضباب العقيم الذي لا يولد إلاَّ الألم!

ومن يُدْمن التخيّل ولن يتمكّن من التخلّي عنه، عليه أن يستعيد ألبومه القديم، وألاَّ يفكر في رصد الصور التي تنخر الذاكرة وتسبب هبوطاً في الضغط .. وربما احتشاء في عضلة القلب، أو رسمها أو تجميعها.

كثيرون تخلّوا عن التفكير في التخيل، مع صدور المفاضلة، ومع بدء العام الدراسي الجديد، وقدوم فصل الخريف، والاستعداد بجهوزية ميدانية كاملة لتأمين 200 ليتر مازوت، ومراقبة المؤسسات الاستهلاكية للحصول على الحصص التموينية من الرز والسكر، والتسجيل عند بائعي أسطوانات الغاز، الذين يكذبون ويكذبون على المواطنين، ويهرّبون الأسطوانات ويبيعونها بأسعار مضاعفة!

ضاقت مساحة التخيل على نحو لم يعد يمكن لأية فكرة أن تنمو وتعيش بحرية. وتبدلت الألوان واحتلَّ اللون الأسود أوسع المساحات.. ورغم ما يجري في الواقع المعيش وفي رحيل الصور الجميلة من الذاكرة، يظل الأمل في المستقبل القريب والبعيد، أحد العناوين لتخيلات تروى بماء التفاؤل!

العدد 1104 - 24/4/2024