نظرة وجه

لم يخطر على بالي في خضم هذه الأحداث، ونحن نخوض معركة التغيير الجذرية، وبعد أن ضاقت الدساتير والأنظمة القديمة على مقاساتنا الفكرية الجديدة، أن هناك من يعترض ويريد تغيير القانون الأساسي الموحد للعاملين.

ففي إحدى جلسات الجدالات المحتدة التي لايخلو منها مكان وفي هذه الظروف، البيت والعمل والشارع وحتى وسائط النقل وبعض أماكن الانتظار، لفت نظري أحدهم إلى هذا القانون، لكني سأتحدث قليلاً عن هذه الجلسات التي تتوسع غالباً ويزداد حواريوها باجتماعات المناسبات الحزينة والسعيدة على حد سواء.

تبدأ الجلسة بهدوء بكلمة من هنا وأخرى من هناك، بعد ذلك كل يستلم جاره يريد اقناعه بوجهة نظره، فتشعر بأنك في (هنكار) للدجاج مع بعض الديكة التي تصيح بظن أنها توقظ الشمس. فنكتشف أننا أبداً لسنا في مجتمع للعقلاء، مطلعون على آداب الحوار نظرياً، لكنّا لم نتدرب على ممارستها. وبعلمكم أن قلة العادة قد تجلب التعاسة، والعكس صحيح. لأننا لم نعتد سماع الرأي الآخر، أو بالأصح لم نعتد الأخذ برأينا وسؤال: هل أنت موافق؟ ما رأيك؟ ماذا باعتقادك؟ ما نسبة قناعتك؟ هل لك وجهة نظر أخرى؟

كان أصحاب السلطة، ابتداء من البيت، مروراً بالمدرسة، وانتهاء بمكان العمل لدى الحكومة أو في القطاع الخاص، يتخذون القرار، وعلينا الموافقة، لا الاعتراض ولا حتى المناقشة. فالرأي الواحد كُرّس في مدارسنا وجامعاتنا وإعلامنا وبرلماننا: الجميع يمين بالإجماع، ولم نعرف يساراً أو معارضة معلنة كانت ستكتشف الداء وتقترح الدواء.(عندما نكثِر من (كانت) فإننا على ثقة بأنها(صارت)). سأكتفي بذلك وأعود إلى الشخص الذي يجلس إلى جانبي ومناسبة الجلسة كانت للتعزية فقد أنستنا الظروف العصيبة التي تلفّنا من كل جانب أن نؤطر حزننا الخاص ونحتكره بعيداً عن آلام الوطن.

مهندس متخرج منذ خمس وعشرين سنة بدرجة امتياز، وتمسّكه الشديد بالشرف والأخلاق حوّله إلى حاقد للسلطة بامتياز أيضاً. سألني في البدء إن كنت لا أزال ألبس الثياب التي كنت ألبسها حين كان عمري خمس عشرة سنة؟ لم ينتظر الجواب بل تابع بالطبع ما يقصر أو يضيق لن ينفع، ونبدو معتوهين إن حاولنا حشر الجسد داخله بسبب التمزق الذي سيلحق به. أليس كذلك؟ أكدت بهزة موافقة من رأسي. فتابع صياحه غاصاً ثم (متشردقاً) بريقه: إذا أجبرتْكِ الظروف لستر السوء على الرثي أو التوسيع بإضافة الوصلات فستعانين الأمراض النفسية والجسدية، لكن في النهاية لا تملكين إلا أن تخلعيه، لترميه في الحاوية، ثم ترتدي ثوباً جديداً. تململت بنظراتي أريد معرفة المغزى، فأتحفني به فوراً قائلاً: بذلك أكون قد حافظت على الأساس الذي هو جسدي مع تغيير الثوب، لأن الحاجة تقتضي ذلك. والذي أقصد التشبيه به هو القانون، لأن التشريعات التي سنها الأقدمون نحتاً لجسد الوطن حين كان صغيراً لم تعد تنفعه حينما شب عن الطوق، لأن عوامل طبيعية غيرته لتنهار بعض جوانبه فيتشوه ليتوجب إعادة ترميمه بتفصيل قوانين جديدة تلائم جسده النامي علماً وفكراً ووعياً وعدداً على امتداد الجغرافيا.

هنا أخذ نفساً فمنحني فرصة المسايرة قلت: معك حق وتقييم الزمن للوطن يعني الكثير، فردت أصابعي لأعد طياً: التخلف والتقدم، العجز والنماء، المرأة والرجل، طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، كل ذلك في زمن واحد. والشباب دائماً هو التجديد والتغيير والبحث عن الأفضل. وكلما ازدادت معرفتنا، تغيرت مفاهيمنا لما نستحق الحصول عليه.

 بنظرة وإشارة من يده كأنما ينبهني إلى أنني أُنظِّر مع شيء من الفذلكة، قاطعني قائلاً: الذي يتحكم بعملنا هو قانون العاملين الموحد، لكن إلى درجة فقط يستحيل القفز بعدها، إلا بواسطة ممن هم فوق. والفوق هذه بحركة يديه التي أخذت مسحة مسطحة دلالة على أنهم ينتمون إلى أكثر من جهة. تابع تساؤله: فبأي قانون يتعين مهندس متخرج حديثاً مديراً عليَّ وهو بعد لا يفقه شيئاً بالهندسة بشكلها الفعلي على الأرض؟قلت ساخرة: بقانون مصرف المعارف، يبدو أنك لم تسمع به. رد بحرقة: صدقت بقانون النفاق والتزلف لهؤلاء المعارف، وليس بقانون التدرج الوظيفي أو المقدرة المثبتة عملياً مع الخبرة، أو حتى الاختبار لتأكيد تكافؤ الفرص وبالتالي العدالة.

فما رأيكم بالاتحاد يداً واحدة من أجل الدعوة لسن قانون عاملين موحد جديد، يراعي تكافؤ الفرص ويليق بأي إنسان طموح وحر في وطنه.

العدد 1104 - 24/4/2024