العوامل الداخلية وتطور الوعي الديمقراطي..

أعتقد أنه من الضروري العودة باستمرار إلى موضوعة أولوية العوامل الداخلية والتطور الاجتماعي والسياسي في أي بلد، على العوامل الخارجية لأهمية ذلك. إن كل التطورات العالمية التي جرت سابقاً وتجري الآن تثبت صحة هذه الموضوعة. إن ما دعانا للتذكير بها مرة أخرى هو ما جرى ويجري في منطقتنا من أحداث مؤلمة. إن التغييرات الديمقراطية عبر حلول خارجية هي وهم. إنها عملية اجتماعية معقدة، داخلية بالدرجة الأولى. أما العوامل الخارجية فهي عوامل تمارس تأثيرها إما بالسلب وإما بالإيجاب. وبكلمة أخرى، فإنها إما أن تسرّع وإما أن تبطئ التطور الديمقراطي، لكن الأساس في ذلك يعود للعامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في هذه البلدان.

لا يمكن القفز على المراحل وتجاوزها. لقد انتهت جميع التجارب السابقة التي حاولت تخطّي المراحل إلى الفشل الذريع. إن أولئك الذين يتحدثون في منطقتنا، عن التطور الديمقراطي الذي يأتي من الخارج، إنما يعبر موقفهم هذا إما عن عجز هذه القوى في إحداث مثل هذا التغيير وبالتالي يطلبون هذا الدعم، وإما عن قصر نظر شديد لا يأخذ بعين الاعتبار التجربة التاريخية للشعوب، وإما عن فكر مغامر لا يطمح للتغيير الديمقراطي بمقدار ما يطمح للسلطة ولو تهدمت البلاد، وإما يعكس تنفيذ أجندات خارجية لا تمت لمصلحة تلك البلدان بأي شكل من الأشكال.

في كل الأحوال، إن تلك القوى التي تطرح مثل هذه الشعارات لا يصب نشاطها في مصلحة التطور الديمقراطي، والدلائل واضحة بصورة تامة. إن من دعا إلى نشر الديمقراطية في العراق عبر التدخل الأمريكي قد دمّر هذا البلد الغني بثرواته وأخرجها من ساحة التأثير الإقليمي.. ونشاهد الآن ما يحصل فيها بكل حزن وألم. ومن دعا لإسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا لإقامة (الديمقراطية) على النمط الأمريكي في بلد لا تزال فيه العلاقات العشائرية هي السائدة، قد ساهموا بتدمير هذا البلد وإيقاف أي تطور مدني فيها. ومن دعا لإقامة (نظام ديمقراطي) في سورية أيضاً عبر التدخل الخارجي فسح المجال لكل القوى الظلامية أن تعيث في البلاد فساداً.

ونرى الآن بصورة حقيقية كم ابتعد المجتمع السوري عن الديمقراطية المنشودة. تلك هي بعض النماذج عن ما جرى في المنطقة وكم هي سلبية على تطور المجتمعات في المنطقة نتيجة هذه الطروح الهدامة. إن من يعتقد أن التطور الديمقراطي في المجتمعات العربية يمكن أن يتحقق بصورة انقلابية أو عبر تدخل خارجي لا يخدم أبداً التطور الديمقراطي في هذه البلدان. وإن من يضيق صدره ويعتقد أن التطور الديمقراطي يمكن أن يحدث في ليلة وضحاها يكون قد ارتكب خطأً كبيراً. إن التطور الديمقراطي هو عملية معقدة وطويلة الأمد وتدريجية. وهو مرتبط ارتباطاً عضوياً بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي والعلمي.. ومرتبط أيضاً بتكون وعي ديمقراطي في المجتمع. أما العوامل الخارجية، فلا ننكر أن لها تأثيراً ما، لكن لن يكون لهذا التأثير الدور الأساسي مطلقاً، وهذا ما أثبتته وتثبته باستمرار التجربة التاريخية للشعوب. كان يتحتم على القوى الديمقراطية في سورية أن تضع مشروعها الديمقراطي الذي يتناول مختلف جوانب الحياة في البلاد. وكان يجب عليها أن لا تظهر بمظهر من يصارع من أجل السلطة. فالسلطة هي تحصيل حاصل لمشروع. وأي سلطة تأتي عبر عمل انقلابي تفتقد إلى عناصر الديمومة مهما طال الزمن أو قصر. إن الهدف ليس السلطة بحد ذاتها. إن الهدف يجب أن يكون دائماً هو نمو الشعب وازدهاره. أما السلطة فيجب أن تكون أداة في هذه العملية.

ومن هنا نقول بضرورة وأهمية إحداث انعطاف جذري في الفكر السياسي في منطقتنا يتماشى مع منطق العصر، ويتماشى مع تطلعات شعوبنا الهادفة نحو التخلص من كل عوامل القهر والظلم والعوامل الأخرى التي تشدها إلى الماضي الذي ذهب والذي يجب أن لا يعود.

العدد 1105 - 01/5/2024