قراءة في تناقضات المعارضة السورية

عادة ماتخلق الأزمات الوطنية الكبرى التي تعصف بالبلدان تناقضات وخلافات عميقة بين النخب السياسية المختلفة. ولاتأتي هذه الخلافات من وقائع وهمية بل تنتج عن إسقاطات اجتماعية وسياسية حقيقية مرتبطة بشكل أو بآخر بالخيارات التاريخية لهذه النخب أو تلك. وبالمجمل يمكن أن نوصّف وضع المعارضة السورية بأنها متشرذمة بما فيه الكفاية حتى لا تستطيع أن تشكل ثقلاً وازناً تجاه السلطة الحاكمة في سوريا، كما أنها تعاني من سوء في التنظيم وعدم الاستقرار في التحالفات طويلة الأمد. ويمكن أن نحدد تناقضات المعارضة السورية بثلاث نقاط أساسية:

أولاً. يشكل موضوع التدخل الخارجي القضية الأكثر جدلية بين مكونات المعارضة السورية، بدءاً من التيارات التي ترفضها بشكل مطلق مثل (حزب الإرادة الشعبية) وتيار (طريق التغيير السلمي) وغيرها، إلى الرفض المُلتبس عند (هيئة التنسيق الوطنية) وتمييزها بين موافقة على قوات تدخل عربية ورفضها قوات تدخل غربية، إلى موقف (الائتلاف السوري المعارض) و(مجلس اسطنبول) المؤيد تماماً للتدخل العسكري الخارجي. على العموم، إذا كانت تبريرات مؤيدي التدخل ترتبط بقناعاتهم أن التغيير في سورية مستحيل بوجود السلطة الحالية، وأن هذه السلطة لايمكن إزالتها إلا بالقوة . فإن الأطراف المقتنعة بعدم جدوى التدخل الخارجي تستند على رفض شعبي واسع لمثل هكذا تدخل، ووعي عميق بأن أي تبرير لتدخل خارجي سيدفع بقوة مكونات المجتمع السوري إلى الانجرار إلى حرب أهلية مدمرة وتكريس الارتهان إلى الخارج.

ثانياً. الارتهان إلى العامل الخارجي، حيث يلاحظ أن نُخباً سياسية سورية -بغض النظر عن الدرجة- ترتبط بشكل أو بآخر بعلاقات خارجية. وهذا إنما يشير إلى اختراق الوعي المحلي بضرورة وحتمية أن التغيير و(نشر الديمقراطية) لايتم إلا بمساعدة الخارج، وقد مهدت هذه النخب للأسف الاستعداد العقلي الواعي لسويات مجتمعية سورية لقبول شروط الارتهان والتدخل الخارجي.

لقد أدى النزاع الذي أججته مجموعات المعارضة الإسلامية المسلحة إلى نمطين من التدخل الدولي؛ الأول تدخل إنساني، تم في جزء منه إرسال مساعدات لوجستية للمجموعات المسلحة، كما أعطتها الهدنة الإنسانية في بعض مناطق النزاع، فرصة لالتقاط أنفاسها في لحظات اقتراب هزيمتها من قبل الجيش السوري. والثاني؛ تدخل سياسي دولي تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتشريع ضرب الدولة السورية عسكرياً. وقد فشل مرات عدة نتيجة استخدام روسيا والصين حق النقض الفيتو ضد أي قرار من هذا النوع. لكن استطاعت الولايات المتحدة أن تتحايل على هذا الوضع بحالات عدة.

ثالثاً. المفاهيم المعلنة: حَمَلت المعارضة مفاهيم متعددة لنقل النظام السياسي الحالي في سوريا إلى نظام جديد، وغالباً ماتمحورت هذه المفاهيم حول (تغيير النظام) أو (إسقاط النظام) وفي حالة خاصة تقريباً لبعض التيارات المعارضة (التشاركية مع النظام). غير أن هذه المفاهيم ولكي تنفذ إلى الواقع السوري لابد وان تحمل منظومات فكرية محددة. لكن في واقع المعارضات السورية غالباً ما كانت هذه المفاهيم مواربة وقابلة للتأويل. وهذه إشكالية معقدة جداً على خلفية الطيف الواسع لتصريحات النخب المعارضة، لدرجة أن مفهوماً على درجة عالية من الأهمية مثل (مكافحة الإرهاب) يحمل أكثر من تفسير عند هذه النخب. ثم إن خلط المفاهيم أمر واقع في أدبيات قسم كبير من المعارضة السورية، فاستراتيجية إسقاط النظام تسوّغ العنف وتسوِّق له، والدعوة إلى إسقاط النظام السياسي يبرر الدعوة إلى التدخل العسكري الخارجي، وخلق القطيعة بين السلطة والمجتمع يجعلها تتغاضى عن تدمير المؤسسات المدنية والخدمية الناظمة للدولة.

أخيرا لابد من القول أن انتشار الفاشية الإسلامية ضمن المجتمع السوري أصبح حقيقة، وان منعكساته العنفية تشكل الخطر الأكبر على كيان الدولة السورية، وأي تغيير سياسي سلمي مستقبلي يمكن تحمله المعارضة، لابد أن ينطلق من تضافر جهود متكاملة مجتمعية وثقافية وعسكرية واسعة وفي إطار مؤسساتي ووطني لمواجهته.

العدد 1105 - 01/5/2024