انتظريني في أنين الرثاء!

 لماذا مقدّر علينا في هذه الظروف العصيبة أن نحترق بلوعة الفراق وعذاب الحزن، وبدلاً من أن نمنّي النفس بمواساة الأصدقاء لنا، ومواساتنا لهم بتخفيف الوجع الذي سببته هذه الحرب اللعينة، نجد أن أصدقاءنا يرحلون الواحد تلو الآخر دون استئذان. باسم عبدو (أبو شفيع) لم يعد بيننا ولأنه ذاكرة صعبة على النسيان، امتدت إليه يد الردى واختطفته من بيننا، وأسكتت حاسته للحياة، كان يخلط كلماته ومواقفه بماء الخلود، محرزاً قيماً يصعب على أعدائنا انتزاعها من ذواتنا.

 باسم عبدو نحن الذين فجعنا برحيلك المفاجئ لأنك الحاضر دوماً فينا. ونحن الذين ينهكنا من بعدك الانتظار، ونحن الذين تتناهبنا سود الأيام، لو تمهّلت قليلاً، لكان لنا لقاء وكان لنا حديث وجلسات ونقاش. لماذا استعجلت الرحيل وكويتنا بنار الرثاء؟ من سيكتب بعد الآن خيوطاً من نور؟ ومن الذي سيغرد على شرفات الكلام؟ ومن الذي سيقول يا ظلمة الحياة الممات.

يا صاحب القلب الكبير والأيادي البيضاء، أيها الصوت الحر والقلم النظيف، ما عرفتك يوماً إلا مناصراً للفقراء والمظلومين، وما قرأت لك إلا وجدتك تكتب أحاسيس الفقراء والضعفاء. أيها الراحل بعيداً حيث لا رجوع، ستبقى ساكناً فينا بوجودك وطيبتك وإخلاصك الوطني. يا للذكريات التي تدمي قلبي، بالأمس القريب كنا معاً في مقر جريدة (النور) تنهض من خلف مكتبك وتجلس جانبي نتجاذب الحديث عن الأدب والحياة والأزمة، وكان صوتك دائما عبر الجوال يدخل في نفسي الراحة عندما أحاورك في أمور الأدب والمجتمع والوطن وما يعصف به من هذه الأزمة التي خلفت فوضى اجتماعية وأخلاقية، وتوّجت بالفوضى الدموية.

قلت لي وأنت الواثق المطمئن:  (لامكان ولا نصر لمارق يحاول أن يعيث بتاريخ هذا الوطن ومقدراته ومواقفه المشرفة ويعبث ببنيته الاجتماعية)! كانت كلماتك تدخل الراحة إلى قلبي لأنك كنت في موقع المسؤولية الإنسانية والأدبية والسياسية وتعي ما تقول. ولأنك كنت تحمل الهم الكثير مما يعانيه المواطن والوطن. يا صديقي، تعلّمنا من نقاء روحك وطهر نفسك أن الحياة عطاء وأن الإنسان موقف ومبدأ. وصلنا نبأ فيض روحك وأنت في قمة العطاء وعنفوان الإبداع، نحن الذين أدمتنا لحظة الوداع، موتك أسقط على ذاتنا الذهول وصدأ السنين النتنة، نحن الذين سنحمل طيفك أبداً في ذاكرتنا، صورة وجهك التي لا يسقطها الموت الذي أفاض روحك، وستبقى كلماتك وابتسامتك تحرك عواطفنا وتبعث فينا وجد الذكريات.

أيها الصديق المنهك الراقد في ارتباك الكلمات المتحدية، يا من حملت في عينيك شعلة من نور في ظلمة الأيام الحالكات، رحلت وأنت المثقل بالهموم والألم، أيها المشتعل بالأحلام والأمل… كيف ركبت صديقي موج الوصايا مودعاً قلبك النازف، هل تحسست جفاف شفتيك؟ وهل ارتعشت جروح روحك الراعفة؟ كيف اختمر دمك في الشرايين وحبست حشرجاتك المقهورة بلا أنين؟ أيها الشامخ في رقودك ماذا وشوشت لك أوراق ذاكرتك، والليل بآخر اعترافاته وأنت مسجى على سرير الرحيل، الدويلعة المزة ساحة الشهبندر جرمانا الحجر الأسود أغنيات طوقتك بالحنين وتناهبتك شوارعها واستعذبت فيها الطرقات وقع خطاك. سنوات عرفتك فيها، كنت نعم الأخ والصديق، أرثيك يا صديقي فتقف الكلمات صارخة تندب نجماً ساطعاً أفل، وتنوح على أخ غافلنا ورحل ذات اشتياق، في زمن كنا ما أحوجنا إليه. ترتجف يدي وأنا أخط هذه الكلمات برثائك، ويئن قلمي تحت وطأة الفاجعة، وتستوطن عينيّ دمعتان.

العدد 1107 - 22/5/2024